كثيرون استغربوا جولة الرئيس الأميركي (بايدن) في المنطقة، في الوقت الذي تستعر الأزمة في الأراضي المحتلة. فالعالم عهد الدعم الأميركي اللامشروط والمطلق للكيان الصهيوني منذ ما قبل تأسيسه حتى يومنا هذا.
وفسّر البعض جولة (بايدن) على أنها إظهار للدعم لهذا الكيان والتمسك به. في الوقت الذي تعرّض لهزة عنيفة على يد المقاومة. فما قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان أمراً غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. فلأول مرة في تاريخ الصراع، تم نقل المعركة إلى “العمق” الصهيوني. حيث شهد العالم، عبر شاشات الفيديو، المقاتلين الفلسطينيين وهم يجتاحون المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية الحصينة في منطقة غلاف غزة بعمق أربعين كيلومتراً، قاتلين لمئات الجنود الصهاينة، وآسرين مئات آخرين.
ووصل الأمر بقوات الاحتلال إلى أنها فقدت السيطرة، عدةَ ساعات، على الجبهة الجنوبية، التي انهارت بالكامل، مفاجئةً المقاومين أنفسهم.
المشروع الأميركي الشرق أوسطي
الامر المؤكَّد أن مسارعة بايدن إلى المجيء إلى الكيان الصهيوني، في وقت يخوض هذا الكيان حرباً ضدّ طرف عربي، شكلت سابقة في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية. وإظهاراً غير مسبوق للدعم علانية في مواجهة الطرف العربي. إلّا أنه كان لهذه الجولة هدف آخر، مرتبط بالاستراتيجية والمصلحة الأميركيتين في المنطقة. فنحن نسمع، منذ عقود، بشأن المشاريع الأميركية لإقامة نظام إقليمي شرق اوسطي تابع للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تكون “إسرائيل” محوره.
وشكل إجهاض عملية السلام بين العرب و”إسرائيل”، بعد عام 1996. ثم اجتياح أفغانستان في عام 2002. ثم اجتياح العراق في عام 2003، محطات في طريق تنفيذ هذه الاستراتيجية، وصولاً إلى عدوان تموز/يوليو على لبنان في عام 2006، ثم إطلاق ما يسمى “الربيع العربي” في عام 2011، بغية تغيير الأنظمة العربية، ومعها الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط.
الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي
إلّا أن الولايات المتحدة و (بايدن) كانت أطلقت، في الأسابيع القليلة الماضية، التطبيق العملي لمشروعها للشرق الأوسط الجديد، عبر إطلاقها مبادرة الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي.
والجدير ذكره أن هذا الخط لا يشكل شرياناً اقتصادياً تستفيد منه الدول الأعضاء فقط،. بل يشكل جزءاً من استراتيجية أميركية لعرقلة مبادرة الحزام والطريق الصينية. ومبادرة طريق شمال جنوب الروسية.
كذلك، فإن هذا الخط من شأنه إرساء العمود الفقري للشرق الأوسط الجديد عبر إعطاء (بايدن) “إسرائيل” الدور المحوري في الربط بين أوروبا. الواقعة تحت الهيمنة الأميركية، من جهة. والهند التي يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي، المعادي للمسلمين، من جهة أخرى. كذلك، فإن هذا الخط يربط “إسرائيل” بعلاقة وثيقة بدول عربية لم يكن لها دور ريادي مستقل في التاريخ العربي الإسلامي. وذلك من أجل ضمان ولاء هذا النظام الشرق أوسطي للولايات المتحدة.
لذا، فإن الخط يمرّ عبر الأردن، الذي سيشكل جسر عبور للكيان الصهيوني في اتجاه المملكة العربية السعودية. ثم الإمارات العربية المتحدة. وهذه الدول لم يكن لها دور ريادي في التاريخ العربي الإسلامي. فالإمارات العربية المتحدة كانت، حتى زمن قريب، تابعة لسلطنة عمان. ولم يصبح لها كيان منفصل إلّا في ظل البريطانيين بين عام 1819 و1971. لذا، فإن المشيخات الإماراتية كانت، حتى زمن قريب، تسمى بر عمان.
كذلك، فإن المملكة العربية السعودية، على الرغم من ضمها الأماكن المقدسة للمسلمين، فإن الحجاز لم يؤدِّ دوراً ريادياً إلّا في مرحلة الإسلام الأولى، زمن الرسول محمد، ومن بعد الخلفاء الثلاثة الذين خلفوه، وهم أبو بكر وعمر وعثمان. بعد ذلك، انتقلت العاصمة، في ظل الإمام علي، إلى الكوفة. وبالنسبة إلى الأردن، فإنه، حتى عام 1922، كان يشكل الضفة الشرقية لنهر الأردن، والجزء الجنوبي من الشام، بالإضافة إلى سنجق فلسطين.
تهميش القوى العربية والإسلامية
الملاحَظ أن هذا الخط الهندي الشرق أوسطي الأوروبي يهمّش الأقطار العربية والإسلامية التي أدّت دوراً ريادياً مستقلاً ومواجِهاً للغرب خلال 1400 عام. فهذا الخط يهمّش دمشق التي قادت العالم العربي الإسلامي حتى عام 750، وكان لها دور شريك مع مصر في ريادة العالم الإسلامي زمن الفاطميين والأيوبيين والمماليك.
كما أن هذا الخط يهمّش بغداد، التي قادت العالم العربي الإسلامي بين عامين و750 و1258. وهو يهمش القاهرة التي قادت العالم العربي الإسلامي، منذ زمن الأخشيديين حتى نهاية زمن المماليك، والذي انتهى في عام 1516. وفي النهاية، فإن هذا الخط يهمّش كلاً من إيران وتركيا، اللتين أدّتا دوراً ريادياً شريكاً للعواصم العربية آنفة الذكر، حتى بداية القرن العشرين. وهذا يدلّ على أن الولايات المتحدة لا تريد لقوى عربية وإسلامية، ذات قدرات جيوسياسية ذاتية، أن تؤدي دوراً في النظام الإقليمي، حتى تضمن قيادة “إسرائيل” لهذا النظام وتبعيته للهيمنة الأميركية.
لكن، بقيت معضلة تواجه هذا الخط، وهي عدم استقرار الكيان بهويته.
فهذا المشروع الشرق أوسطي يريد من “إسرائيل” أن تكون قاعدة له. وحتى تكون هذه القاعدة ثابتة يجب ألا تكون منقسمة الهوية، بين يهودية وفلسطينية، وبالتالي يجب عليها أن تفرض هوية واحدة في الإقليم، الذي تسيطر عليه، وهو أرض فلسطين التاريخية.
كذلك، حتى تكون هذه القاعدة صلبة يجب ألا تكون مهدَّدة بمقاومة تنطلق من غزة. وتعزز حضور مقاومة مسلحة في الضفة الغربية. لذلك، فإن رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، بتنسيق مع الاميركيين، كان يحضّر ضربة قوية للمقاومة الفلسطينية في غزة. بعد انتهاء الاحتفالات بعيد الغفران اليهودي. الذي كان سينتهي في ليلة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. وكان من المقرر أن تبدأ الضربة بحملة اغتيالات لقيادات الصف الأول لفصائل المقاومة كلها. تليها ضربات موجعة تستهدف المدنيين الفلسطينيين بغية تهجيرهم من غزة في اتجاه سيناء. وإيجاد وطن بديل لهم هناك.
وكان من المفترض أن تلي هذه الضربة عمليات تهجير لأهالي الضفة الغربية في اتجاه الأردن من أجل تحقيق مشروع الترانسفير. الذي تحدث عنه الصهاينة طوال عقود.
إلّا أن فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، علمت بأمر الضربة. فقررت استباقها بضربة توجهها بالتنسيق مع فصائل المقاومة الأخرى. علماً بأن التحضيرات للهجمات الفلسطينية تم إعدادها منذ زمن طويل والتكتم عليها.
وكانت المفاجأة في نجاح منقطع النظير للهجوم، الذي قامت به فصائل المقاومة، لتوجه ضربة ليس فقط إلى العقيدة الأمنية لـ”إسرائيل”. بل أيضاً إلى مجمل المشروع الشرق أوسطي الأميركي الصهيوني في المنطقة. وهذا يفسر خطاب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، الإمام علي خامنئي. حين قال . إن معركة غزة ستؤذن بقيام نظام إقليمي ونظام عالمي جديد. سيكونان خارج الهيمنة الأميركية، وأكثر عدالة.