تتعدّد أهداف زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن في إسرائيل . صحيح أنها «ذروة» التعبير عن مساندة واشنطن لتل أبيب، ومحاولة دفع تبعات «طوفان الأقصى» الذي أخرجها، في حدّ أدنى، عن توازنها. وهي أيضاً رسالة، مفرطة في الشكل، لتعميق الحملة الردعية في وجه أعداء إسرائيل في المنطقة، سيّما أنه لمس تخلّف المواقف الأميركية السابقة، قولاً وعملاً، عن تحقيق الأهداف الردعية المطلوبة.
لكن أساس الزيارة هو مساعدة إسرائيل في «التفكير السليم»، ربطاً بوقوع عقل العدو تحت سيطرة نزعة الانتقام والقرارات الغرائزية. وقد ركّز الرئيس الأميركي على آفاق الحرب واليوم الذي يلي، مع التشديد على الضوابط الأميركية لمنع تدحرج الأمور إلى سيناريوهات تنعكس سلباً على المصلحة الأميركية، والإسرائيلية بالتبعية، في المنطقة.
جو بايدن في إسرائيل:
اللافت هو الزيارة نفسها التي جاءت في خضمّ حرب إسرائيلية لم تنته، بل ولم تحدَّد لها أهداف قابلة للتنفيذ. وهي مشكلة إسرائيلية – أميركية مشتركة: فهذه الحرب خيضت أولاً، إسرائيلياً وأميركياً، على أن يصار إلى تحديد أهدافها خلال الحرب نفسها. وهذا يعدّ، نسبياً، سابقة في تاريخ الحروب الحديثة. فيما الأهداف التي يجري تداولها، بما يرضي إسرائيل خارج مهمة الانتقام، لا يمكن إنجازها. أو أن ثمنها كبير جداً للأميركيين، قبل أن يكون كبيراً للإسرائيليين أنفسهم.
كانت زيارة جو بايدن في إسرائيل لتكون مفهومة أكثر لو كانت الأهداف والمخارج السياسية محدّدة. وهي على وشك التحقّق في الميدان، بما يلزم واشنطن أن تعطي الإسرائيلي دفعاً كبيراً للوصول إلى النتائج السياسية. لكن ما يبدو، حتى الآن، أن الأهداف تنتقل وتتغيّر يومياً. وهناك تعارض بين المطلب الإسرائيلي والممكن الأميركي. إذ إن الأهداف التي ترضي إسرائيل تمسّ مساً جوهرياً المصالحَ الأميركية.
قال بايدن لقادة العدو ما يرغبون بسماعه، أقلّه في العلن، من عبارات الود والتضامن والشراكة والتأكيد على الأمن الإسرائيلي وعلى الحرب المشتركة ضد أعداء الدولة العبرية، وفي المقدّمة إعادة التأكيد على ما من شأنه ردع من يخشى تدخلهم في الحرب. وفي المقابل، استمع إلى عبارات الشكر على الموقف والمساندة وقرار «الذهاب بعيداً» في المساندة.
أسباب الزيارة الخاطفة إلى تل أبيب
لكن إلى جانب ذلك كله، هناك خلاف معلن بين الجانبين على تحديد أهداف الحرب بناءً على الممكن، مع الامتناع عن الإضرار بالمصالح من منظور أكثر شمولية وإحاطة. وقد يكون هذا المطلب واحداً من أهم أسباب الزيارة الخاطفة إلى تل أبيب. وفي السياق، سبب آخر على المقدار نفسه من الأهمية، هو محاولة ردع التهديدات المحتملة من ساحات أخرى، مع التركيز على حزب الله وإيران، خصوصاً أن تطورات الأيام الماضية دلّت على أن التصعيد ليس مستقراً على مستوى وتيرة واحدة، بل يتنامى يوماً بعد يوم، ما يشير إلى أن نية حزب الله مشاغلة إسرائيل شمالاً بقدر محدود، بل يمكن التقدير أن التصعيد سيرتفع درجات، في تناسب مع الفعل العدائي الإسرائيلي، في مرحلة الخيارات البرية التي كان يفترض أن تباشرها إسرائيل قبل زيارة بايدن.
أهداف الحرب، وما هي فرص إنجازها
وسبق لأسئلة الزيارة، أن سألها موفدو بايدن، من مسؤولين سياسيين وعسكريين لا يغادرون تل أبيب، في الغرف المغلقة. ما هي أهداف الحرب، وما هي فرص إنجازها، وما هي ترتيبات اليوم الذي يلي؟. وهي الأسئلة التي يريد بايدن أن يسمع إجابتها مباشرة من مضيفيه الإسرائيليين. على أن يتلقّف الإخفاق في الإجابات ليفرض الأهداف التي يراها معقولة. خصوصاً أن موفديه السياسيين والعسكريين سمعوا إجابات إسرائيلية منقوصة، إلا في ما تعلّق بالمغالاة في تدفيع الثمن والقتل والتدمير والترحيل (الترانسفير).
كل ذلك يعني أن الهدف الفعلي لزيارة جو بايدن في إسرائيل يتعلق بإدارة الحرب وتحديد أهدافها. ثم العمل الميداني والسياسي وفقاً لهذه الأهداف التي لم تتحدّد بعد على ما يبدو. مع ملاحظة أن شهية إسرائيل لإنجاز المعقول وغير المعقول جزء لا يتجزّأ من منطلقات الحرب لديها، لكن دون تحديد هذه الإنجازات، إلا في ما يتعلق بالقتل والتدمير، ضد المدنيين تحديداً.
مع ذلك، لا يمكن الاستنتاج بأن الزيارة صوّبت تفكير إسرائيل ضمن محدّدات الواقع وضوابطه وإمكاناته. وهو ما يلزم الجانب الأميركي بمواصلة الحضور في قاعة القرار في تل أبيب. منعاً لمفاجآت قد تورّط واشنطن في ما لا تريده. كما يمكن التقدير، أن زيارة بايدن لم يخصّص فقط للتشديد على الضوابط، بل حقّقت أيضاً أهم ما كانت تصبو إليه: بلورة، أو الدفع إلى بلورة أهداف معقولة للحرب نفسها، قابلة للتحقّق، بلا تبعات سلبية على المصلحة الأميركية في المنطقة، وفي المقدّمة توريط واشنطن في قتال ومواجهة مباشريْن.
الخيار البري
هل هذا يعني أن الخيار البري بات وراءنا؟ الإجابة هي «لا» كبيرة، خصوصاً أن الخيارات البرية، بمعنى المناورة وليس الاحتلال الدائم، غير محدّدة باتجاه واحد. وهي طبقات ومستويات واتجاهات، تختلف باختلاف الأهداف التي يخصص الخيار البري نفسه بها. كي يتمكّن السياسيون وراسمو المسارات اللاحقة، من تحويله إلى مكاسب في اليوم الذي يلي. وهو نقيض ما كانت تسعى إليه إسرائيل ابتداءً: تفعيل الخيار البري، الموسّع وإن كان تدحرجاً، ومن ثم البحث في نتائجه، وما يمكن إنجازه من خلاله.