بتلر يفند مفتريات المؤرخين في “فتح مصر”

 

كان المؤرخ الإنجليزي ألفريد.ج. بتلر قد أصدر كتابه “فتح العرب لمصر” بالإنجليزية عام 1902، وفي عام 1931 بدأ الأديب الرائد محمد فريد أبو حديد تعريبه بتكليف من لجنة التأليف والترجمة والنشر، فكان الإصدار الأول معربا عام 1932، وقد وجد أبو حديد مأربه في هذا التكليف، مؤكدا أن للمؤلف فضل التعرض لبعض مفتريات التاريخ، وكانت شائعة بين الناس يأخذونها تلقفا بغير تمحيص، وطالما كانت تلك المفتريات عضدا لمن أراد البغي على المصريين، إذ يسوقها حجة عليهم، وكان المظهر التاريخي الذي يبدو عليها يخدع القارئ عن حقائقها.

ولفت أبو حديد في مقدمته للكتاب الذي أعادت الدار المصرية اللبنانية طبعه بتحقيق د.نهلة أنيس مصطفى، إلى مثالين من المفتريات الشائعة التي رددها المؤرخون المغرضون ومحصها بتلر، وهي اتهام المصريين القبط بأنهم كانوا دائما يرحبون بالغزاة الأجانب، فرحبوا أولا بالفرس ورحبوا ثانيا بالعرب، يريدون بذلك أن يتخلصوا من نير ليضعوا نيرا آخر على رقابهم، وقد أظهر بتلر في حادث من هذين الحادثين كذب ما ادعاه المغرضون من المؤرخين، وخلص إلى أن القبط كانوا أمة شاعرة بوجودها مستمسكة بمذهبها الديني، وقد اتخذت ذلك المذهب الديني رمزا لاستقلالها، فضحت في سبيله بكل شيء.

وأظهر بتلر أن تلك الأمة التي حافظت تلك المحافظة المرة على شخصيتها، لم تكن لترضى بأن تفتح ذراعيها لكل سيد جديد، وتقف معه في وجه السيد القديم، بل كان كل ما فعلته أن بقيت مكانها لا تحرك ساكنا برغبتها، تاركة ميدان النضال بين المتنافسين، إذ لم يكن من مصلحة لها في الدفاع عن سيد أذاقها مر العذاب في محاولته القضاء على استقلالها.

المثال الثاني مسألة خاض فيها المؤرخون المتأخرون ووجدوا فيها سبيلا للطعن في سيرة العرب، وهي إحراق مكتبة الإسكندرية، فأبان هناك عن الحق راجعا إلى أسانيد التاريخ، حتى أظهر أن العرب عندما غزوا الإسكندرية لم يجدوا هناك مكتبة كبرى، إذ كانت مكاتب تلك المدينة قد ضاعت ودمرت من قبل غزوتهم بزمن طويل.

ورأى أبو حديد أن كتاب بتلر له قيمة خاصة لسبب آخر غير تفنيد مفتريات المؤرخين المغرضين، وذلك “أن تواريخ العرب وقتوحهم لم يتناولها إلى الآن كاتب حصر همه في ميدان محدود وبحث فيه بحثا مستفيضا، كما فعل مؤلف هذا الكتاب، فنجد كثيرا من الكتب تصف العرب إجمالا وتتعرض إلى فتح مصر في قول موجز لا يزيد على عشرات من الصفحات، وأكثر هؤلاء المؤرخين إنما يرجعون إلى ما كتبه العرب في دواوين أخبارهم، غير أن هذا الكتاب لا يتناول إلا فتح العرب لمصر، وهو في أكثر من خمسمائة صفحة، وقد رجع مؤلفه إلى أسانيد القبط والأرمن والسوريان واللاتين وغيرهم، كما رجع إلى مؤلفات العرب فكانت نظرته من غير جانب واحد، ولهذا نراه أقرب إلى التمحيص وأحرى بأن يكون قد أصاب القصد”.

وأشاد أبو حديد ببتلر الذي زار مصر مرتين الأولى عام 1880 بدعوة من الخديوي توفيق ليدرس لأبنائه من الذكور، والثانية عام 1884 باحثا ورحالة لمدة ستة أشهر يرصد ويتعقب فيها آثار الكنائس والأديرة القبطية وحصل على درجة الدكتوراه في الحضارة القبطية، قال “كان ارتباطه الروحي والعقلي بمصر وواديها داعيا إلى أن تكون كل آثاره العلمية مرتبطة بها، فليس له مؤلف لا يتصل بمصر وتاريخها وآثارها، وكان همه الأكبر منصرفا إلى تلك الفترة التي تتعسر دراستها على الأكثرين، وهي فترة الحكم الروماني الأخير وأول العصر الإسلامي، فألف كتابا في الأديرة والكنائس المصرية، وكتابا آخر في تاريخ الفتح العربي لمصر، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ مصر في هذه الفترة مدين أكبر الدين لهذا المؤلف الكبير، إذ لولا دراسته العميقة وعقله الكبير وعلمه الواسع لظلت هذه الفترة من أظلم فترات تاريخ هذه البلاد”.

ورأى بتلر أن تاريخ فتح العرب لمصر تاريخ يلفه ظلام دامس نتيجة قلة الأخبار التي يمكن أن يعتمد عليها الباحث وأيضا نتيجة الخلاف الواسع بين الرواة والمصادر سواء منها المشهور وغير المشهور وسواء منها الشرقي أو الغربي. وقال “أقدمنا على تأليف هذا الكتاب وقصدنا أن نجلو بعض تلك الظلمة التي تلف الأمر لفا”. وأضاف “بدا لنا أن كتابة تاريخ الفتح العربي لمصر يجب ألا يعالج على أنه حادث منقطع العلاقة بسائر حوادث التاريخ، بل إنه حادث لا يظهر خطره ولا تتضح حقيقته إلا إذا قرن بالأحداث التاريخية الكبرى التي ساقت دولتي الروم والفرس القديمتين إلى الاصطدام بالدولة العربية الناشئة، وقد رأينا أن حكم هرقل علم ظاهر من أعلام التاريخ يليق لأن نجعله مبتدأ تاريخنا. ومن لطائف الاتفاق أنه يبدأ على حوادث ذات شأن عظيم وقعت في مصر، وكانت لا تزال مجهولة خافية.

وأضاف أنه في أثناء ذلك الحكم حدث أن تمزق ملك فارس وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قام برسالته ونشر دينه، وإن أفلت حكم بيت المقدس والشام من أيدي القياصرة، وملك كسرى بلاد مصر، كما وأننا نطلع منه على الأسباب السياسية والدينية التي مهدت السبيل لانتصار الإسلام وصولة القرآن، على أننا في الوقت عينه لم ننس أن نلقي نظرة على مجرى الحوادث التي كانت تحدث فيما وراء حدود مصر، في إلمامة قصيرة حتى تكون تلك الحوادث الخارجية ثانوية تابعة لا تغطي الغرض الأول من الكتاب”.

وأشار بتلر إلى أن الإنسان لا يكاد يتصور مقدار ما في أمهات الكتب الشرقية من خلط في التواريخ والحوادث والأشخاص، وقال إن الملاحق التي ألحقها بالكتاب تكشف مقدار ما هنالك من خلط في التاريخ ومقدار ما عانيناه من المشقة في ابتداع طريقة لضبط تواريخ الفتح الفارسي والفتح العربي، فالظاهر أن مؤرخي العرب لا يعرفون شيئا عن تيودور القائد الأعلى لجيوش الروم، فهم يخلطونه ببعض أصاغر القواد، وهم كذلك يخلطون بين قيرس وبنيامين، وبين فتح قطر مصر، وفتح مدينة مصر، وفتح الإسكندرية. وأما معاهدة بابليون فهم يخلطونها بمعاهدة الإسكندرية وكذلك لا يميزون بين فتح الإسكندرية الأول الذي كان صلحا وبين فتحها الثاني الذي كان عنوة في مدة ثورة منويل.

أخرج بتلر كتابه في ثلاثين فصلا تناولت تاريخ فتح العرب لمصر انطلاقا من أوضاع مصر في عهد الإمبراطور فوكاس (602 ـ 610) وخروج هرقل من شمال أفريقيا في ثورة عليه ودخول مصر تحت حكم الامبراطور الجديد هرقل (610 ـ 641) وانتهاء بعودة الأنبا بنيامين البطريرك الثامن والثلاثين لكنيسة الإسكندرية بعد غيبته ثلاث عشرة سنة هربا من ظلم واضطهاد الروم، وملاقاته لعمرو بن العاص وإطلاق يده في كافة أمور القبط.

ثم ذيل بتلر كتابه بسبعة ملاحق تناولت عدة قضايا هي عن الصليب المقدس، وفي تواريخ الفتح الفارسي، ومبحثا عن شخصية المقوقس، وآخر عن تواريخ الفتح العربي، وتناول في مبحث سن عمرو بن العاص، ثم تناول تاريخ بطاركة القبط بعد بنيامين في القرن السابع، وجاء الأخير ليبحث فيه ثانية شخصية المقوقس، وهذه الملاحق تكاد تكون أبحاثا منفصلة للمؤلف ذيل بها الكتاب لتعلقها بموضوع دراسته عن فتح العرب لمصر، وهي مكملة للكتاب من حيث المحتوى.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى