بدائل غير محتملة في مستقبل وشيك

معظم تجاربنا مع المستقبل تجارب أليمة. كان الأمل قبل العام 2011 أن يكون المستقبل كريما معنا، يأتي بثورة ومعها التغيير. أتى بالثورة ولم يأت بالتغيير. انقلب على نفسه وعلى التاريخ وعلينا. كنا في انتظار كرامة وحرية وعدالة ولا نزال في الانتظار. أتى محمولا على أجنحة الأمل والتمني، ولكن يبدو أننا قصرنا في حمايته ودعمه. تركناه للذئاب والجوارح تنهش لحمه وتكسر عظامه. تركته لنا هيكلا محطما يلقي بظلاله الكئيبة على تطلعات وآمال جيل، لن يهدأ قبل أن يصنع أسساً لمستقبل أفضل.

كنا في انتظار أن تحل السعادة محل تعاسة أقامت طويلا حتى عششت. كنا في انتظار مستقبل يستطيع الصمود في وجه متاعب ومشاق جسام، وفي إقليم يمر بمرحلة تحولات جذرية في تراكيبه الديموغرافية والسياسية والاجتماعية، وفي وجه عقبات منعت مصر من أن تحقق تقدما كان من حقها وحرمت منه على امتداد عقود. لم تحل السعادة التي كانت أملنا في المستقبل الذي ولى قبل أن نضع أيدينا عليه. وعلى كل حال، لم نكن وحدنا. لسنا سعداء، ولكن الأميركيين كذلك غير سعداء بسبب تخبط أدوات الحكم لديهم وتشقق الثقة في كثير مما تصوروا أنها مسلمات، وبسبب انكشاف حال اللامساواة الاجتماعية والعنصرية الصارخة وعنف أجهزة الأمن. والروس غير سعداء بسبب الضغوط الاقتصادية التي فرضها الحصار الغربي على بلادهم وبسبب الإجراءات القمعية والبوليسية التي يفرضها نظام الحكم. ومعظم شعوب أوروبا غير سعيدة بسبب بطء مسيرة الانتعاش الاقتصادي والخوف المتزايد من صعود قوة ألمانيا ونفوذها في القارة، وهي غير سعيدة أيضا لأن حظوظ الطبقة الوسطى الأوروبية سيئة كحظوظ الطبقة الوسطى الأميركية، التي لم تستفد شيئاً من إجراءات الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية. أما شعوب الشرق الأوسط، فهي أيضا وبالتأكيد غير سعيدة، بل لعلها الأشد تعاسة بين شعوب الكوكب كافة، والأسباب معروفة وبعضها سوف أعرض له بعد قليل.

تبقى شعوب آسيا، ليس كل آسيا على كل حال، بل شرق آسيا وبعض جنوبها، هناك تظهر بشائر السعادة واضحة، فالأمور تسير من حسن إلى أحسن، باستثناء بعض الظنون في نوايا الصين «التوسعية». يتوقعون انكشاف حقيقة هذه النوايا خلال العام الذي يبدأ بعد أيام.

كتب روجر كوين في مقال بصحيفة «نيويورك تايمز» عن توقعاته للعام الجديد من خلال ما شاهده في الأسابيع الأخيرة. يقول إنه وجد مدينة نيويورك هذه المرة أقذر من أي مرة سابقة، واطلع على الآثار التي خلفتها أزمة الرأسمالية الأميركية وبخاصة الآثار الاجتماعية للفجوة في الدخول. كتب عن الانحدار المتواصل للطبقة الوسطى الأميركية، الأمر الذي يهدد مستقبل أميركا، بل والغرب بأسره. كوين، مثل غيره من معظم من كتبوا عن الشرق الأوسط، غير متفائل بمستقبل الإقليم. صرت أعتقد أنه حتى المتفائلين من خبراء الشرق الأوسط لا يخفون قلقهم من مستقبل يطل علينا بعد أسبوعين أو أقل.

تعددت انتكاسات «الربيع العربي»، وتعددت معها أسباب شعور الشعوب العربية بخيبة الأمل من «مستقبل» انتظروه طويلا يأتي حاملا لهم كرامة افتقدوها وحرية لم يمارسوها وعدالة غابت طويلا وسعادة يحلمون بها. حل المستقبل ومعه «الربيع العربي»، وانسحب كلاهما قبل أن يتحقق الوعد. تركا وراءهما إقليما ترتع فيه انتكاسات عديدة أهمها الانتكاسات التالية:

أولا، هيمنة أوسع من جانب الحكومات حيثما وجدت حكومات، على أجهزة الإعلام، وبخاصة الفضائيات. كانت المحصلة كما هو متوقع انهيار متسارع في أخلاقيات المهنة الإعلامية، وبخاصة بعدما تولى مسؤولية الحشد والتعبئة أسوأ من أفرزتهم تجربة الإعلام الفضائي.

ثانيا، عودة الخطاب السياسي في العواصم العربية كافة إلى مستواه التقليدي والروتيني، هادفا إلى إطفاء جذوة الثورة وإجهاض مبادرات وخطط التغيير والإصلاح.

ثالثا، تسريع بإعادة رسم خرائط لحدود داخلية جديدة، أي داخل الدول. تقوم هذه الحدود على أسس أمنية في الغالب، ولكن تقوم أيضا لاعتبارات قبلية وعرقية وطائفية، أكثر مما تقوم على أسس واعتبارات اقتصادية واجتماعية.

رابعا، زادت التوجهات والسياسات «الأبوية» في ممارسات معظم الدول العربية التي لم تصل إليها بعد نسائم «الربيع العربي».

خامسا، استمر تصاعد أسعار السلع والخدمات الضرورية في أنحاء المنطقة العربية كافة في وقت انخفضت فيه بشكل عام الدخول الحقيقية للأفراد.

سادساً، بقيت المعارضة على حالها من دون تقدم يذكر في أساليب عملها وتطوير أفكارها. لم تستعد لمستقبل مر سريعاً. والآن هي غير مستعدة لمستقبل وشيك بخطاب سياسي جديد أو أفكار ذكية. بقيت معظم تشكيلاتها وهياكلها متخلفة وفي الغالب غير ديموقراطية. وبدت أمام الجماهير غير مبالية بمشاركتها، مؤكدة اتهام الجماهير لها بشراكتها في مسؤولية التدهور الذي أدى في نهاية المطاف إلى اشتعال «ثورة يناير». من هنا كان محل اهتمام كبير في التحليلات الأجنبية رفض الثوار لمناورات الطبقة السياسية للالتحاق بركب الثورات.

سابعا، فشلت «الدولة في العالم العربي» في أن تلعب دور الحكم بــين المصــالح وبين الطبــقات وبين الجماعـات، في مرحلة بالغة التوتر والاضطراب. ساهم هذا الفشل في خفض رصيدها وعرض استقرارها للاهتزاز وشجع عناصر طائفـية وخارجية على إثارة القلق وعدم الثقة في مستقبل «الدولة».

ثامنا، كنا خلال الشهور الآخيرة شهوداً على حكومات عربية تزداد تصلباً، وعلى معارضة سياسية تزداد تحجرا، وعلى شعوب تزداد إصراراً في طلب التغيير والإصلاح.

تاسعاً، عاد مطروحـاً وبشدة الرفـض الشـعبي لخــيار «الثورات السلمية». حدث هذا في أعقاب ما كشفت عنه التطورات في العراق عن عنف دموي مارسته حكومة المالكـي ضد معارضيهــا وبوضوح أكـثر في أعقــاب الفــشل المتكــرر في تحقيق القصاص في المحاكمات التي جـرت ضـد مرتكــبي الجرائــم ضد «ثورة يناير». كشفت عنه أيضا عودة المسؤولين عن الفساد إلى توظيف أجهزة الإعلام لخدمة مصالحهم، ولجوء السلطة الأمنية إلى استخدام القوة كوسيلة مفضلة، وربما أخيرة، لوقف التيار الثوري وترحيل ثورة يناير إلى غياهب النسيان.

عاشراً، تصاعد استخدام الميليشيات المسلحة والعنف ضد الاشخاص أو الجماعات، وتشددت لهجة الخطاب السياسي الصادر عن الأفراد والتنظيمات المتصارعة على السلطة في عديد الدول العربية.

خلصت التطورات والشهور الأخيرة إلى واقع جديد ينذر باستدعاء مستقبل للمنطقة العربية لن تكون بين بدائله البدائل التالية:

أولا، بديل التغيير بوسائل سلمية.

ثانيا، بديل التغيير بالاستعانة بالمؤسسات العتيقة . ليس خافيا أن الخبراء في هذه المؤسسات محبطون أو خائبو الأمل في قدرتهم، وقدرة مؤسساتهم على تحقيق التغيير المنشود، فضلا عن الهجرة الواسعة للأدمغة التي شهدتها معظم الدول المأزومة في المنطقة العربية.

ثالثا، بديل الاستقرار والوحـدة والعـودة إلى النسيج الواحد في دول متعددة الأديان أو المذاهــب أو الأعـــراق. سيكــون أقـــرب إلى الاستحــالة تجــييش جيــوش جديــدة لتحقـــيق هــذه الوحــدة، وأن تقــبل دول الجوار تغيير أوضاع معينة في داخل الدول العربية المجــاورة، وأن تلــتزم قــوى التــطرف الصمت داخل المجتمع ولا تتدخل لإحباط هذا البديل.

رابعا، بديل استخدام هيبة الدولة لحشد الأمة وتعبئتها. هذه الهيبة سقطت تحت وقع أساليب العنف والقمع التي استخدمت ضد الثوار في دول «الربيع العربي».

خامسا، بديل إقامة تحالف أو ائتلاف أمني أو سياسي إقليمي يعيد إلى الشعوب الثقة في المستقبل ويضمن حماية الدول الأعضاء من عــصابات التـطرف والتدخل الخارجي. لا ننسى أن قدرة معظم الدول العربية على تحمل تكاليف إقامة هذه التحالفات صارت محدودة بالوقت والمال والشكوك المتبادلة.

سادسا، بديل عودة مصر إلى ممارسة دور قيادي أو ريادي أو توجيهي، فشروط العودة غير متوفرة في المستقبل المنظور، والجهد المطلوب لتحقيق هذا الدور يتجاوز إمكانات وخبرات الطبقة السياسية التي احتضنت نظام الرئيس مبارك، وتحاول الآن احتضان النظام القائم.

سابعا، بديل العودة للاستعمار الأجنبي، وها نحن نرى أكثر من دولة عربية تجرب هذا البديل المشحون باحتمالات ردود فعل إرهابية عنيفة من أطراف كثيرة.

ثامنا، بديل الانفراط الإقليمي والانفراط الوطني، أقصد بالانفراط الإقليمي تبعثر النظام العربي في فوضى «نظامية» شاملة، ولكنى أقصد أيضا ميل دول وحكام وسياسيين إلى الأخذ بخيار الانعزال بالابتعاد عن التزامات تفرضها عضوية النظام الإقليمي العربي. هناك دولة عربية خليجية جربت هذا البديل لسنوات عديدة، وهناك مصر في عهد مبارك حين قررت تجاهل أو إهمال «النظام العربي»، هذا إلى جانب واقع أن هناك عددا من الدول العربية يقف الآن على مسافة بعيدة من هذا النظام. هذه الدول هي العراق وسوريا والصومال والسودان وليبيا، ودول أخرى لا تخفي نيتها في الابتعاد بإرادتها، إذا كان في هذا الابتعاد ما يضمن لها حصانة ضد رياح التغيير الثوري.

حاولت في هذه السطور التعرف عن قرب على مستقبل وشيك بدت لي أغلب مكوناته غير جاهزة بعد لاستعادة الأمل إلى نفوس ملايين العرب.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى