بدر الديب مؤرخ الخراب… القاهرة تعيد إلينا المثقف الموسوعي
قبل عشر سنوات، رحل الروائي والشاعر والمترجم المصري بدر الديب (1926 ـ 2005). وقبلها عاش 80 عاماً زاهداً في الشهرة، برغم دوره الطليعي في حركة الأدب المصري. لفت النظر إليه الكاتب إدوار الخراط، في المقدمة التي أعدها لكتاب «حرف الحاء»، عند نشره ضمن أعداد مجلة «الكرمل» في منتصف الثمانينات.
وأخيراً، أعادت «دار الكرمة» نشر روايتين لبدر الديب هما «إجازة تفرغ» و«حديث شخصي»، ضمن سلسلة تبنتها الدار لنشر الأعمال الأساسية في السرد المصري. بفضل هذه الطبعة، تهيأت للديب فرصة لقراءة جديدة في أوساط القراء، الذين لفت نظرهم بـ «اللغة السلسة النضرة»، وببساطة الأسلوب وعمق التناول وشجاعة المراجعة. مثلاً، تطرح رواية «اجازة تفرغ» تساؤلات جوهرية عن حرية الفنان وطبيعة الالتزام ومعناه، بل تطمح لمراجعة مبكرة للتجربة الناصرية ومسؤولية النظام عن قمع الحريات الفردية، من دون نبرة تشهيرية عقب هزيمة الـ 1967.
ويمكن النظر الى «حديث شخصي» بتنويعاتها الأربعة كـ «درس في الشجاعة» بتعبير الناقد الراحل شكري عياد.
تعطي حياة بدر الديب مثالاً لنوعية نادرة من المثقفين المصريين، أبناء جيل الأربعينات ممن اتسمت حياتهم بطابع موسوعي، يجمع العديد من المعارف. جيل ضمّ الى جواره أسماء بارزة مثل محمود أمين العالم، ويوسف الشاروني، ومصطفى سويف، ممن اختاروا دراسة الفلسفة انحيازاً للمعرفة كقيمة عليا، وبغرض تعميق الإيمان بالحرية الفردية. غير أنهم وجدوا أنفسهم في قلب مجتمع يموج بالأفكار الاشتراكية، وقضوا بقية حياتهم مؤرقين بفكرة الجمع بين الحرية والعدل.
ولد الديب عام 1926 في جزيرة بدران في القاهرة، وتخرج في قسم الفلسفة (كلية الآداب ـ «جامعة القاهرة») عام 1946. درس لمدة عام علم الجمال في جامعة «السوربون»، وحصل على درجة الماجستير في علوم المكتبات من جامعة «كولومبيا» عام 1953، ودرجة مهنية للتأهيل للدكتوراه في علوم المكتبات عام 1960. تولى العديد من المواقع الثقافية المهمة مصرياً وعربياً ودولياً، منها خبير اليونسكو في التوثيق التربوي في السعودية، وعمل خبيراً للأمم المتحدة، وأستاذاً غير متفرغ لتدريس تاريخ المسرح والنقد المسرحي في معهد الفنون المسرحية.
تجربته في العمل في الصحافة لم تنل الاهتمام الكافي، لأنّها تؤكد فكرة المفارقة التي مزقت وعي كتّاب جيله وطبيعة علاقته بالسلطة. تولى رئاسة تحرير جريدة «المساء»، التي أسسها نظام ثورة يوليو 1952 للتعبير عن خط الثورة. أُسندت مسؤولية إدارتها لخالد محيي الدين، أكثر أصوات ضباط يوليو انحيازاً للديموقراطية والآتي من تنظيمات يسارية لها تصورها الراديكالي عن فكرة التغيير. جاء الديب الى مقعد رئاسة التحرير في الوقت الذي كان فيه روائي آخر هو فتحي غانم رئيساً لمجلس إدارة المؤسسة الصحافية التي تصدرها. كان الديب يكتب افتتاحية الجريدة عن موضوع ثقافي أو أدبي، وهذا كان يحدث للمرة الأولى وربما الأخيرة في الصحافة المصرية، وفق الكاتب يوسف القعيد، في شهادة كتبها عن الراحل عقب وفاته، لكن بقي أمران في تجربة عمل الديب في الصحافة: الأول أنه رئيس التحرير، الذي ظهر في عهده الملحق الأدبي لصحيفة «المساء» بإشراف الروائي الراحل عبد الفتاح الجمل. تجربة أقرب ما تكون للمختبر الذي أطلق جيل الستينات الأدبي، وسمح بعملية فرز عميقة لأصوات هذا الجيل المائز. أما الأمر الثاني، فهو أقرب لـ «غصة» ظلت في روح الديب، الذي اتهمه ناقد بارز، هو شكري عياد، بالاقتراب من السلطة عبر الصحافة، على أمل تحقيق «مغانم شخصية». اتهام رد عليه الديب في سلسلة مقالات، وفي حوار أجراه لكاتب هذه السطور ونُشر في مجلة «الأهرام العربي» قبيل وفاته. يومها، رأى أن «هذا الاتهام كلام فارغ» لأنّه لم يحقق أي مغانم من الصحافة، كما أنّ عياد «لم يفهم النزعة الأبيقورية التي تتملّكني». في الحوار نفسه، قال إنّ شعاره ظلّ دوماً «عش مجهولاً». ويبدو أنّ ذلك كان صحيحاً إلى حد كبير. فقد لا يعلم كثيرون أنّ بدر الديب هو من قدّم الشاعر صلاح عبد الصبور في مقدمة ديوانه الأول «الناس في بلادي» وراهن فيها على تمكن قصيدة التفعيلة من إثبات حضورها، برغم أن خياره الفني ظل في مكان آخر. فالنصوص الشعرية التي نشرها اعتباراً من الثمانينات، كانت تؤكد التفاته المبكّر الى قصيدة النثر، مستأنفاً مساراً لها كان قد تعطّل مع شيوع النبرة الإنشادية لشعر التفعيلة، وتماهيها مع شعارات التحرر الوطني، فضلاً عن توقف حسين عفيف وبشر فارس عن نشر «شعرهما المنثور»، وانتحار منير رمزي تاركاً ارثاً من القصائد لم تنشر الا في التسعينات.
لا يحتاج بدر الديب اليوم لتأكيد حسه الطليعي. فقد فعل ادوارد الخراط ذلك بجدارة في ما كتبه عن «الحساسية الجديدة وعبر النوعية»، لكنه بحاجة الى قراءة منصفة تزيح عن نصوصه الكليشيهات التي التصقت بها. هي لم تكن «ذهنية» كما يظن بعضهم، ولم يكن الطابع الفلسفي والرمزي عائقاً أمام وصولها إلى القارئ العمومي، لأنّ صاحبها لم يكن مشغولاً بالقارئ الكسول على حد تعبير الديب في حوارنا معه. لقد كان مريضاً بالسعي نحو الكمال، باحثاً عن قارئ مختلف على وعي بمنطقه، القائم على «تشوق حقيقي لامتلاك المعرفة في الجملة والجسد». فعل ذلك بإيمان جذري بأهمية الانفتاح على الآداب العالمية، وبالتحديد المهمش منها. لذلك، سعى باكراً الى لفت الأنظار إلى نصوص الهايكو اليابانية، وترجم العديد منها قبل أن يتحول «نسخ الهايكو» لظاهرة في الشعر العربي اليوم. ضمن شروط التعاطي الفعال مع كتابات صاحب «لحم الحلم»، لا يجوز إهمال انشغاله بحضور الأسطورة، ورغبته في إعادة تركيب عوالم «ألف ليلة وليلة»، التي عدّها الكتاب الأدبي الأعظم، كما فعل في عمله «حكاية حاسب كريم الدين»، الذي عدّه من أهم الروايات العربية على الإطلاق.
من ناحية أخرى، يحتاج قارئه إلى أن يعي المنطلقات الفكرية التي شغلت صاحبها. هو انطلق دائماً من انشغال بسؤال «الكينونة» حتى في الكتب التي ترجمها، وأبرزها «الموت والوجود» لجيمس ب .كارس اعتقاداً بأن الفلسفة طريق للتمتع بالحياة. لقد آمن بأن للفلسفة مأزقاً إشكالياً جميلاً، يتمثل في سعيها لتكون «فناً»، ولا تقدر أن تكون كذلك. لذلك سعى في أعماله «السين والطلسم»، و«القيمة والمستحيل»، و«تلال من غروب» (نشرت في الثمانينات والتسعينات) لتحقيق هذا الطموح، مستنداً الى فكرة أنّ الكينونة أسبق من الوجود. كذلك، ظل هاجس مراجعة التجربة الذاتية طاغياً على أعماله، معترفاً بأن الفنان يكتب نفسه دائماً. لم توجد شخصية في أعماله لا تمثله، بما في ذلك المرأة بطلة «أوراق زمردة أيوب». هذا الوعي يذكّر القارئ بشخصية حسن عبد السلام، الرسام بطل «اجازة تفرغ»، الذي غادر القاهرة بحثاً عن إجازة يعيد فيها تأمل انخراطه في الضجيج. والسؤال: هل كتب الديب هذا النص الفاتن بأمل مراجعة انخراطه في تجربة العمل الصحافي؟ وهل كان نصه، الذي نشرته «دار أزمنة» في الأردن، بعنوان «جروح الروح»، تغريدته الأخيرة؟ فالنص عبارة عن شذرات من سيرة ذاتية تؤرخ من ناحية لـ»الخراب» الذي عاشته الروح، ويشير الى بوصلة الانهيار الذي عاشه المجتمع المصري، في ظل تفشي الهاجس الأمني، وتحكم العقليّة القابضة على سائر مكونات المجتمع، بحيث انتهت الاشتراكية الناصرية إلى نقيض ما كانت تأمل تحقيقه. إنّها فكرة المراجعة التي سيطرت عليه منذ كتب «اجازة تفرغ»، مروراً بـ «زمردة أيوب»، التي وصفها الخراط بـ «طقس الاعتراف»، الكاشف لماهيّة الخراب الذي طفق ينخر القيم والأخلاق بسبب السلطة ذات البعد التوجيهي، المستندة في بقائها إلى قاعدة الولاء أولاً وأخيراً. واصل الديب النبرة نفسها في «جروح الروح «، لكنه تخلص فيها من التزامات الشرط الفني، بالغاً حد توجيه الاتهام إلى رموز وأسماء كانت فاعلة في مصر.
وصف بدر الديب نفسه في الحوار الذي أجراه لكاتب هذه السطور بأنه «رجل تتملكه نزعة الاستمتاع باللذات. عاش تجربة عريضة احترف فيها التسكع في حدائق المعرفة. روت زوجته الدكتورة سلوى بيومي في شهادة لها أنه حين عاد إلى القاهرة عقب رحلة عمل طويلة في الرياض، حيث تزوجته هناك، صادرت الرقابة كتاباً واحداً له أحضره ضمن أكثر من 50 صندوقاً مليئة بالكتب، وهو معجم مفردات الحديث لعدد من المستشرقين الأوروبيين. تأثر بدر الديب جداً وكتب قصته الجميلة «ثورة المكتبة وسلة السمك المسموم». وقال: «ليس هناك كتاب مسموم إلا إذا انتزعته من على الرف وتركته لمن لا يعرف طعمه وقراءته»، وقال أيضاً: «أنا لا يحميني إلا عقلي، ولن أتوقف عن القراءة».
صحيفة الأخبار اللبنانية