بدوي الجبل.. مُخترع الأخيلة المُفارِقة
“بدوي الجبل هو آخر الشعراء الكلاسيكيّين العرب العظماء”، هذا ما قاله مؤخّراً شاعرنا الكبير أدونيس لإحدى محطّات التلفزة العربيّة في أثناء كلامه على مجلّة “شعر” اللّبنانيّة ودَورها في التأسيس للحداثة الشعريّة العربيّة المرتكزة (من وجهة نظره) على عدم نفي التجارب الشعريّة العربيّة الكلاسيكيّة المتجاوزة إبداعيّاً في الزمنَين القديم والمُعاصِر، وإن كان يجب على شعراء مجلّة “شعر” ربط حداثة الشعر العربي “القديم” نقديّاً، بحداثة الشعر العربي “الجديد” في إطار سبيكة ذهبيّة إبداعيّة واحدة.. “وهذا ما لم نفعله، وكان علينا أن نفعله سابقاً في مجلّة شعر” على حدّ تعبير أدونيس، وهو هنا مُحقّ تماماً في ما ذهب إليه.
يُمثِّل إبداعيّة الزمن القديم شعراء من طراز أبي تمّام وأبي نوّاس وبشّار بن برد وابن الرومي ومسلم بن وليد، مثالاً لا حصراً. أمّا شعراء الحداثة العربيّة الكلاسيكيّة في الزمن المعاصر، فيمثّلها شعراء من طراز بدوي الجبل وسعيد عقل ومحمّد مهدي الجواهري وعمر أبو ريشة وعلي الشرقي والهادي آدم، مثالاً لا حصراً أيضاً. هكذا فالتحديث الشعري لا يعني كسر الشكل التقليدي للقصيدة واستبداله بأشكال أخرى كالتفعيلة أو قصيدة النثر أو النصّ الشعري المفتوح، بقدر ما يعني تغيير مَدارات الرؤية الشعريّة للذات والأشياء والعالَم من خلال ابتداع المعاني والأفكار والصور الشعريّة بمداليلها الجديدة المتحرّكة، حتّى قيل في الماضي مثلاً، إنّ أبا تمّام ( 804 – 845 م) خالَف الإجماع الشعري وانفرَد بمذهبٍ شعريٍّ اخترعه، وخرج فيه، حتّى على “عمود الشعر”، لا لشيء إلّا لأنّه أدخل في قصائده معاني فلسفيّة ومُصطلحات علميّة وألفاظاً مُغايرة فرضها منطق عصره وثقافة ذلك العصر العبّاسي المتقدّم على ما سبقه. ولا غرو، فقد كان أبو تمّام يلمس بعقله وحواسه كلّ جديد ومُبتكر أيّام عيشه مرحلة انتقال مجتمعه العربي والمسلم من البداوة إلى الحضارة.. كان باختصار شاعراً مثقّفاً، قلقاً ومستوعِباً مختلف علوم زمنه، وخصوصاً المنطق والكيمياء والهندسة، ومن هنا جاءت قصيدته مركّبة، حديثة على كرّ الأيّام والسنين على الرّغم من تقليديّة شكلها.
ومن هنا أيضاً نجد في الشاعر الكلاسيكي المُعاصر بدوي الجبل (1903 – 1981) شاعراً حديثاً، على الرّغم من الشكل التقليدي لقصيدته. وبالتأكيد كان الـ”بدوي” يعي هذه المُعادلة الشعريّة المُفارِقة في تجربته، بدليل أنه كان ينخرط في مناقشات شعراء مجلّة “شعر” في خمسينيّات القرن الفائت (جلسات خميس مجلّة شعر)، وجلّهم من روّاد حركة الشعر العربي الحديث، أمثال بدر شاكر السيّاب ويوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج ومحمّد الماغوط وفؤاد رفقة وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ…إلخ. ومعروف عن هؤلاء الشعراء أنّهم كانوا نزّاعين إلى شعريّة جديدة تقطع مع الشعريّة العربيّة القديمة بتمرحلاتها، منذ الجاهليّة إلى عصرنا الراهن.
هكذا تقريباً، نجد في قصيدة بدوي الجبل، على الرّغم من شكلها القديم، كلّ ما هو حديث ومغاير ويحمل على التفكير العميق والغموض الإيجابي والأخيلة المُفارقة، بل هو “مخترع أخيلة” على حدّ تعبير الأديب والسياسي الأردني المرموق أكرم زعيتر في تقديمه لديوان “بدوي الجبل”.. ومعروف عن زعيتر أنّه كان صديقاً لـ”البدوي”، ويعتبره أحد أكبر شعراء العروبة المنزّهة عن الاتّجار السياسي… فمَن هو بدوي الجبل؟ وماذا يمثِّل في الشعريّة العربيّة المُعاصرة؟
هو محمّد سليمان الأحمد من قرية ديفة الكائنة في جبال اللاذقيّة قي سورية. أَطلَق عليه لقب “بدوي الجبل”، الصحافيُّ يوسف العيسى، صاحب جريدة “ألف باء” الدمشقيّة سنة 1921، فلازمه اللّقب طوال حياته التي قضاها في مناخات الشعر والثورة على الاستعمار.. وكذلك على الواقع السياسي لبلاده بعد الاستقلال، على الرّغم من أنّه تبوّأ مناصب النيابة والوزارة في سورية مرّات عدّة، لكنّ نزعة النقد السياسي لم تفارقه يوماً؛ ولأجل ذلك قضى حياته في السجن حيناً (أيّام الانتداب الفرنسي على سورية) وفي المنافي أحياناً أخرى، حيث ظلّ متنقلّاً بين لبنان والعراق ومصر، ثمّ تركيا والنمسا وإيطاليا وسويسرا، وانتهى به المطاف مشرّداً ومعتدى عليه من “جهات مجهولة في بلاده”، بحسب الناقد د. إحسان عبّاس، إذ عُثِر عليه مضروباً على رأسه ومُلقى على قارعة الطريق في دمشق قبل نقله إلى المستشفى، وظلّت تلك الضربة مؤثّرة عليه حتّى آخر يوم من حياته. وقد أنشد بعدها القصيدة التي يقول فيها:
نحن موتى وشرّ ما ابتدع الطغيان موتى على الدروب تسير
كان بدوي الجبل شديد الاعتداد بنفسه وبشعره؛ فعندما دُعي للاحتفال بتتويج الملك فيصل الثاني في العراق في العام 1953، وألقى قصيدته التي يقول فيها:
شادٍ على الأيك غنّانا فأشجانا تبارك الشعر أطياباً وألحانا
ترنّح البان واخضلّت شمائله فهل سقا الشعر من صهبائه ألبانا
ولو سقى الشمس من أحزانه نَدِيت على هجير الضحى حبّاً وتحنانا
بَلَغَه أنّ الحكومة العراقيّة، ومكافأةً له على قصيدته، منحته وسام الرافدين من الدرجة الثالثة. غضب الشاعر لذلك أشدّ الغضب، ووجّه رسالة خطيّة إلى رئيس الوزراء العراقي آنذاك جميل المدفعي يخاطبه فيها: ” إنّني أعتبر تفضّلكم بإهدائي وسام الرافدين من الدرجة الثالثة امتهاناً لكرامة الفكر وازدراء بالشعر والأدب. وليعلم سيّدي الرئيس، أنّ الدولة لو أهدت إليّ أرفع وسام فيها، لكان ذلك تشريفاً للوسام وتمجيداً للدولة قبل أن يكون تشريفاً لي ولشعري”.. فما كان من رئيس الوزراء العراقي إلّا أنّ قدّم الاعتذار باسم حكومته واسمه الشخصي، ومُنح الشاعر بعد ذلك رسميّاً وسام الرافدين من الدرجة الأولى. وذهب ذلك التصرّف الاحتجاجي الجريء للشاعر مذهب المثل لدى الجميع من شعراء ومفكّرين وسياسيّين.
وفي إطار إعطاء القرّاء على امتداد الدنيا الثقافيّة العربيّة فكرة مُختزَلة عن شعره، ينصح بدوي الجبل بقراءة قصائد بعينها له، منها قصيدة “الخلود” التي أهداها إلى روح شاعر الرمزيّة اللّبناني أديب مظهر، وقصيدة “رثاء هنانو” التي ألقاها في الحفل الذي أقامته “الكتلة الوطنيّة” في حلب سنة 1942 تكريماً للشهيد إبراهيم هنانو، وقصيدة “الشهيد” التي ألقاها في حفل ذكرى الشاعر هنانو ثانية في العام 1945.
من قصيدته في رثاء الشاعر أديب مظهر نقتطف:
يا ربى الحسن في لبنان هل ثملت بعدي الرياحين من صهباء نيسان
مدّي ظلالك ينعم في غلائلها صرعى الردى من أحبّائي وأخداني
النائمينَ بظلّ الأرز يُنشدهم رواية الدّهر في نُعمى سليمان
أما البلابل فلتؤنس قبورهم من كلّ ساجعةٍ في الدوحِ مِرنان
أُعيذُ بالحبَّ والذكرى هوى نفرٍ بيض الوجوه من النعماء غُرّان
دفاعه عن طه حسين
كان بدوي الجبل صديقاً شخصيّاً للدكتور طه حسين. وجد فيه قامة أدبيّة ونقديّة هي فخر للعرب جميعاً، ودعا إلى قراءة كِتابه “في الشعر الجاهلي” بعقلانيّة وانفتاح شديدَين، ومناقشة الآراء الواردة في الكِتاب المذكور برؤية عِلميّة ثاقبة ومُقارَنة تاريخيّة وازِنة، بغضّ النظر عن الحكم النهائي للقارىء ورأيه في ما إذا كان مع استنتاجات طه حسين أم على الضدّ منها.
كما دافع بدوي الجبل عن عميد الأدب العربي ضدّ كلّ من اتّهمه بتنكّره للعرب والعروبة قائلاً ” إنّ طه حسين عروبي من نوعٍ خاصّ، أراد للعرب أن ينتقلوا من عصر الخرافة وتمجيد الماضي لذاته إلى رحاب العقل والتفكير العِلمي والمستقبلي الذي يستوعب أهلوه الماضي والحاضر معاً بلغة العصر والحضارة والمدنيّة الجديدة التي لا بدّ من السير في ركابها”.
من موقعه كشاعر كبير وليس كسياسي فقط، ارتبط بدوي الجبل بصداقات شتّى مع سياسيّين عرب كِبار، من بينهم رئيس وزراء لبنان الأسبق رياض الصلح (1894 – 1951)، وكان الدافع إلى قيام تلك الصداقات أو العلاقات الوثيقة، مناخ المُجايلة نفسه الذي نشأ بين الشعراء والسياسيّين من ذلك الرعيل العربي العتيد، الذي كانت له مواقفه وتقويماته الخصوصيّة للسياسات العربيّة والدوليّة. وقد رثى بدوي الجبل صديقه الزعيم رياض الصلح في الذكرى الأولى لمقتله في شهر تمّوز/ يوليو من العام 1952 بقصيدة تحت عنوان “أين.. أين الرعيل من أهل بدر؟” يقول فيها:
غاب عند الثرى أحبّاء قلبي فالثرى وحده الحبيب الخليل
وسقوني على الفراق دموعي كيف يروى من الجحيم الغليل
هتف الهاتفون: أين رياض فانتخى في الثرى حسام صقيل
وبكت أمة وأجهش تاريخ وناح القرآن والإنجيل
إنّ موت العظيم محنة تاريخ ودنيا تفنى وكون يزول
ويخاطب الزعيم الصلح بلغة الرفاق والرعيل الواحد:
يا رفاقي بكيت فيكم شبابي كلّ عيش بعد الشباب فضول
أين، أين الرعيل من أهل بدر طُويَ الفتح واستبيح الرعيل
كان الشاعر بدوي الجبل من أشدّ الناس وفاء لأصدقائه ومحبّيه. قال عنه الشاعر محمّد مهدي الجواهري لكاتب هذه السطور ذات يوم في إمارة الشارقة في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة: “بدوي الجبل كان شاعراً كبيراً بقصيده ووفائه الشخصي الكبير والعميق”. ولا غرو، فالشعر بالنسبة إلى الـ”البدوي” هو وفاء مطلق للأحياء والأموات من الأصدقاء على حدّ سواء.. وأحبّته سيذكرونه دوماً بعد الفراق، وخصوصاً أنّه القائل:
سيذكرني بعدَ الفراقِ أحبّتي ويبقى من المرء الأحاديث والذكر
ورود الربى بعدَ الربيع بعيدةٌ ويُدنيك منها في قواريره العطر
نشرة أفق (تصدر عن مؤسّسة الفكر العربي)