تحليلات سياسيةسلايد

بعد انقضاء شهر على “طوفان الأقصى”.. هل يمكن القضاء على حماس؟

نضر فارس

هل يمكن القول إن “إسرائيل” تسير في تحقيق هدفها؟ وإنها ماضية وفق خطة واضحة بمهل زمنية محددة، تنتهي بها إلى ما تصبو إليه؟ وهل تبدو المقاومة في حالة تراجع وانكسار، أم أنها لا تزال ممسكة بخيوط اللعبة؟

 

 

بعد الساعات الأولى التي أعقبت هجوم مقاومي “القسام” على مستوطنات غلاف غزة، والسيطرة على مواقع الاحتلال العسكرية فيها، يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، بدأت الأصوات الإسرائيلية، ومعها الأميركية، تتوالى وتؤكد ضرورة الانتقام من حركة حماس. وتم لاحقاً رفع شعار “القضاء على حماس”، كهدف أساسي للعدوان العسكري، الذي شنّه الاحتلال على قطاع غزة، في شقيه الجوي والبري.

كرر القادة الإسرائيليون، وعلى رأسهم نتنياهو وحكومة الحرب التي يقودها، أن هدف حربهم على غزة هو القضاء على الحركة، وقتل قادتها، وضرب قدراتها العسكرية، حتى إن ورقة السياسات التي أعدتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، والصادرة بتاريخ 13 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، والتي تناولت خيارات التعاطي الإسرائيلي مع السكان المدنيين في قطاع غزة، قالت إن الافتراض الأساسي الأول للعمل في أي خيار، فيما يخص سكان قطاع غزة، ينطلق من هدف أول وكبير، وهو “القضاء على سلطة حركة حماس”.

تخلص الورقة السالفة الذكر إلى أن الخيار الأفضل للتعاطي مع الوضع المتأزم في القطاع هو “إجلاء السكان من قطاع غزة إلى سيناء”، كطريق لعملية عسكرية واسعة تهدف إلى استكمال احتلال القطاع و”تطهير المخابئ تحت الأرض من مقاتلي حماس”.

ويبدو أن العمليات العسكرية الإسرائيلية، والنهجَ السياسي لحكومة نتنياهو، تتماشى مع الخيارات التي حددتها ورقة وزارة الاستخبارات تلك، بحيث انطلق العمل العسكري من شماليّ القطاع، مع تركيز العمليات الجوية على هذه المنطقة، وبدء التوغل البري مع ترك “ممرات” لانتقال السكان إلى جنوبي القطاع، ومنه بعد ذلك إلى سيناء المصرية، تمهيداً لتفريغ القطاع واحتلاله كاملاً، وعند ذلك يتحقق هدفهم القاضي بالقضاء على حماس.

لكن، بعد انقضاء الشهر الأول على عملية “طوفان الأقصى”، هل يمكن القول إن “إسرائيل” تسير في تحقيق هدفها؟ وإنها ماضية وفق خطة واضحة بمهل زمنية محددة، تنتهي بها إلى ما تصبو إليه؟ وهل تبدو المقاومة في حالة تراجع وانكسار، أم أنها لا تزال ممسكة بخيوط اللعبة وتدير معركتها باقتدار؟

دروس التاريخ

استقراء النتائج الحالية والمستقبلية للأحداث يقتضي العودة إلى التاريخ، والتعلم من أحداثه وعِبَره، بحيث يخبرنا الخوض في تاريخ نضال الشعوب بأن النصر كان دائماً لصاحب الأرض والحق، وأنه لا يمكن القضاء على حركة مقاومة أو تحرر قضاءً نهائياً، لأن المقاومة فكرة أتت كرد فعل على الاحتلال والظلم، ولا تموت الفكرة إلا بانتفاء السبب الذي انطلقت من أجل مواجهته. فحتى لو تم القضاء على وجود حركة تحرر فستخرج من بعدها حركة أخرى أو حركات، وستتعلم من تجربة سابقتها وتبني عليها.

تجربة حركة التحرر في الجزائر من الاستعمار الفرنسي تعطينا مثالاً على الحقيقة سالفة الذكر. فعلى الرغم من استهداف قادتها ومحاولة التخلص منهم، سواء بالقتل أو النفي أو الحبس، فإن مسيرة النضال استمرت على مدى أكثر من 120 عاماً، وتُوِّجت بالثورة الجزائرية التي أشعلت الجزائر خلال 7 أعوام من الكفاح المسلح، انتهت بالاستقلال وطرد المستعمر الفرنسي، على الرغم من أنها انجلت عن مليون ونصف مليون من الشهداء. مسيرة استقلال نهائي بدأت ببيان لـ”مجموعة الستة” في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954.

هذه الحقيقة نجدها ماثلة في فلسطين أمام العيون. فعندما بدأت “إسرائيل” مسار اجتثاث منظمة التحرير الفلسطينية، شنت عدوان الليطاني عام 1978، احتلت بموجبه جنوبي لبنان، وقتلت الآلاف من المقاومين الفلسطينيين وأهالي الجنوب اللبناني. وعلى رغم أنها نجحت في إبعاد المنظمة إلى شمالي الليطاني، فإنها لم تتخلص من خطرها، بل زادت فيه، وتحولت حركة “فتح” إلى ملجأ للشبّان اللبنانيين، الذين بدأوا ينضمون بالمئات من أجل التدرب في صفوفها.

اضطر ذلك “إسرائيل” إلى اجتياح لبنان عام 1982، بهدف القضاء على “فتح”. وعلى الرغم من أن نتيجة الاجتياح كانت نقل مقاتلي الحركة إلى خارج لبنان، فإن النضال الفلسطيني لم يتوقف، بل شهد نقلة نوعية في بروز حركتي “حماس” و”الجهاد”، اللتين أخذتا الصراع مع المحتل إلى معادلات وأبعاد جديدة.

والعمليات العسكرية والحروب التي شنتها “إسرائيل” على قطاع غزة، وعلى جنوبي لبنان، بهدف القضاء على حماس والجهاد أو حزب الله، لم تنجح أي منها في الوصول إلى هدفها، بل تسببت بازدياد قوة هذه الحركات وتطورها، وزيادة حاضنتها والالتفاف الشعبي حولها.

هنا يجب أن نذكر أن “إسرائيل” جرّبت فرضيات كثيرة للتخلص من حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، منها أن تنسحب من مساحات معينة، كي تأخذ المقاومة نفساً وتشعر بالارتياح، ولا تتمكن من مراكمة قدراتها، وهذه الفرضية فشلت هي الأخرى في فلسطين ولبنان.

ما سلف يدفعنا إلى التأكيد أن القوة الغاشمة لا تمحو فكرة المقاومة، بل تساهم في ترسيخها وازدياد أوارها، وهذا سيكون حال العدوان الذي تشنه “إسرائيل” حالياً على قطاع غزة. كيف؟

ورطة الأهداف المتطرفة

السؤال الذي يُطرح دائماً من جانب الجميع: هل الاحتلال قادر على اجتثاث المقاومة، وعلى رأسها حماس، من قطاع غزة؟

تكرّر “إسرائيل” أخطاء الماضي، ولا تتعلم من الحروب التي خاضتها، كما ألمح الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، عندما قال، في خطابه الأخير، إن من أهم الأخطاء التي ارتكبها الإسرائيليون، ولا يزالون، هو طرح أهداف عالية لا يمكنهم أن يحقّقوها، أو يصلوا إليها”.

وهذا ما فعله الاحتلال عام 2006 عندما لخّص أهم أهداف الحرب في “تدمير حزب الله وإعادة جثتي الجنديين الأسيرين من دون تفاوض، وإنهاء الهجمات الصاروخية على إسرائيل”، لكنه، بعد 33 يوماً من القصف والتدمير والمجازر، لم يحقق أياً من أهدافه، بل اضطر إلى وقف الحرب والتفاوض لاحقاً لاستعادة الجثتين، في مقابل ثمن كبير، هذا ناهيك بتنامي القدرة الصاروخية لدى حزب الله، بصورة كبيرة.

هذه النظرية يؤكدها نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي لسياسة الشرق الأوسط، أندرو أكسوم، الذي كتب قبل أيام مقالاً في مجلة “ذي أتلانتك”، تحدث فيه عن خطأ الاستراتيجية الإسرائيلية، المتمثلة بوضع “أهداف متطرفة وعدم القدرة على الوفاء بها”، مستشهداً أيضاً بحرب عام 2006، بحيث كتب أن “هذا لا يحدث للمرة الأولى. سوف تفشل إسرائيل، كما فعلت في عام 2006 ضد حزب الله”.  سياسة المبالغة في تحديد لائحة الأهداف، ساهمت، بصورة كبيرة، في تشكيل صورة “إسرائيل” على ما هي عليه، من غير تهويل، الأمر الذي عزّز معنويات مواجهتها والتصدي لها.

التفكك في معسكر العدوان

لم تنجح “إسرائيل” في المحافظة على حالة “الوحدة” التي أعقبت عملية السبت المجيد، بل إنها سرعان ما غرقت في بحر من الانقسام الداخلي، وتقاذف التهم والمسؤوليات، والتهرب من تحملها.

هذا الأمر تَبَدّى في انتقادات بنيامين نتنياهو لقادة الجيش والاستخبارات، وتحميلهم المسؤولية عن عدم التنبيه المسبّق لهجوم محتمل لحماس. وعلى رغم أنه اضطر إلى التراجع عن كلامه تحت ضغط الانتقادات الكثيرة، التي وُجِّهت إليه، فإن هذا الأمر عكس حالة الانقسام والإرباك في المعسكر الإسرائيلي، وتبايناً في الرؤى والأهداف وطريقة إدارة المعركة، وهو ما تعكسه مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام الإسرائيلية يومياً، والتي تنتقد نتنياهو، وتَعُدّ أنه سبب المشكلة، وأنه يجب أن يرحل بسرعة.

مشهد آخر يُظهر مدى الانقسام، هو المشهد الذي التقطته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، التي لفتت إلى أن نتنياهو ووزير أمنه، يوآف غالانت، وعضو كابينت الحرب، بيني غانتس، “يتحدثون إلى الإعلام بصورة منفردة”، على الرغم من كونهم في “حكومة وحدة واحدة”، ومرّ على الحرب أكثر من شهر. وهذا يدل على مدى الخلافات وعدم الانسجام بينهم بشأن إدارة المعركة.

المشهد الحكومي الإسرائيلي المتفكك يؤازره ضغط خارجي بدأ يزداد يوماً بعد يوم، وخصوصاً مع تزايد الجرائم الإسرائيلية وازدياد حدة الانتقاد العلني لـ”إسرائيل”، وهو ما ينعكس على تَأَكُّل الدعم الغربي للعملية العسكرية الإسرائيلية. هذه الخشية عبّر عنها مبعوث “إسرائيل” إلى الاتحاد الأوروبي، حاييم ريجيف، الذي أعرب عن مخاوفه من أن الدعم الغربي لـ”تل أبيب” بدأ يتراجع.

الكلام نفسه يتكرر في الصحافة الأميركية، التي باتت تتحدث عن مُهَل أميركية أُعطيت لـ”إسرائيل” من أجل استكمال عمليتها وتحقيق أهداف، ولو شكلية، لأنها لن تتمكن من دعم عملية طويلة الأمد، بهذه التكلفة المرتفعة من المدنيين في غزة، والتي تُحرج الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ولا سيما أنهم يتّبعون دائماً سياسة “التمويه القيمي” في الداخل الأميركي وخارج الحدود.

صمود حماس

البحث في استشراف المستقبل، من أجل معرفة إمكان تحقيق الإسرائيلي هدفه في القضاء على حماس، يدفعنا إلى مراقبة سلوك الحركة الفلسطينية، وكيف تدير معركتها وتتحكم في مفاصل الميدان والسياسة، وخصوصاً مفاوضات استعادة الأسرى، وأيضاً معركة كسب الرأي العام العالمي.

في الميدان، يبدو أن حماس خططت طويلاً ووضعت سيناريوهات متعددة لما بعد هجومها على مستوطنات غلاف غزة، وهي حضّرت مقاتليها ودربتهم وزودتهم بأسلحة مخصصة لمواجهة الإسرائيلي خلال تقدمه في اتجاه غزة. وشهدنا في الأيام الأخيرة قدرة قذائف “الياسين 105” وعبوات العمل الفدائي، والتي فاجأت مدرعات الجيش الإسرائيلي، وكبّدته خسائر كبيرة، وأجبرته مرات كثيرة على التراجع وتغيير خطط التقدم، ناهيك بشبكة الأنفاق ومنظومة التحكم والتواصل بين عناصر القسام.

وما كان لافتاً لبعض المعلقين قدرة المقاومة على تصعيد العمل العسكري بالتزامن مع تصعيد الغزو البري الإسرائيلي، والمحافظة على نسق واحد لإدارة المعركة، وهذا يشمل أيضاً تصعيد الضخ الإعلامي المتزامن، الذي أدى فيه أبو عبيدة، الناطق الإعلامي لكتائب القسام، دوراً كبيراً، وأردفته مقاطع الفيديو من العمليات على الأرض، والتي أظهرت قدرة المقاومين وقوتهم وإيمانهم بالنصر.

في المقلب الآخر، لم نشهد من الناطق العسكري الإسرائيلي سوى الأكاذيب، التي فضحتها وسائل إعلام إسرائيلية تارة، وأفعال المقاومة في الميدان حيناً آخر، أضف إلى ذلك عدم قدرة “إسرائيل” على كسب السردية، وتبرير مجازرها بحق المدنيين، الأمر الذي اضطُرّ هذا الناطق إلى تخفيف إطلالاته اليومية، والاقتصار على مؤتمر صحافي واحد يومياً، بدلاً من اثنين.

قيادة حماس أيضاً كانت، منذ بداية “طوفان الأقصى”، الهدف الأعلى لقادة العدو، بحيث أكدت “إسرائيل” أنها ستضرب قادة الحركة من الصف الأول وتقضي عليهم، لكن حتى اليوم، بعد انقضاء الشهر الأول على العدوان، لم تُصَب هذه القيادة بأي ضربة ولم تهتزّ، بل على العكس تُظهِر قدرة على المحافظة على الأرض والميدان، وتلتزم ما أعلنته سابقاً فيما يخص أسرى الاحتلال لديها، وكذلك تتنبّه لمناورات العدو وخداعه وتردّ عليه في الميدان.

وفي هذا السياق، تنقل صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، عن مسؤولين إسرائيليين (لم تُسَمِّهم)، قولهم إنه “على الرغم من المعارك المكثفة حتى الآن، فإن قادة حماس ربما يحافظون على جوهر قواتهم”، وهذا ما يؤكده ماتان فيلناي، الرئيس السابق للقيادة الجنوبية في “إسرائيل”، والذي قال إن “حماس ربما تحتفظ بقواتها، استعداداً لمعركة أكثر كثافة داخل مدينة غزة”.

أمر آخر قد يكون عاملاً حاسماً في إفشال الخطط الإسرائيلية بشأن القضاء على حماس، وهو سكان غزة، الذين أبدوا مقاومة قل نظيرها في العصر الحديث. فعلى رغم المجازر اليومية التي ارتكبتها “إسرائيل”، على امتداد أكثر من شهر، فإن هؤلاء رفضوا ترك مناطقهم والنزوح جنوباً، كما لم يصدر منهم أي انتقادات لعناصر القسام وقادتها، أو تشكيك فيهم، بل إنهم ازدادوا تمسكاً بخيار المقاومة، والوقوف خلفها، مهما كانت التضحيات والأثمان.

على المستوى السياسي، إن بدائل حماس حتى اليوم غير متوافرة، ولا تحظى بموافقة الأطراف العربية الفاعلة، وهي لا تقنع أيضاً واشنطن، التي ترى ضعفاً في خطط “إسرائيل” بشأن إدارة القطاع “ما بعد حماس”، وعدم قدرة على تحقيقها.

هذا فضلاً عن الموقف الذي أعلنه السيد نصر الله في خطابه الأخير، والذي أكد فيه أن هزيمة حماس ممنوعة، يقتضي أن يتصاعد دور محور المقاومة في رفد المقاومة في غزة ومنع الاستفراد بها، مهما كانت التكلفة.

كل ما ذُكر من أسباب قد يختلف البعض بشأن مضمونه وتحليل خلفية بعضه، لكن ما لا خلاف عليه أن كثيرين من حلفاء “إسرائيل” يشككون في قدرتها على تحقيق أهدافها، ومن ذلك ما نقلته “وول ستريت جورنال”، عن مصادر أميركية، ومفاده أن “مجتمع الاستخبارات الأميركي يشكك في قدرة إسرائيل على تحقيق هدفها المتمثل بالقضاء على حماس”.

يُضاف إلى ذلك أن كثيرين من الإسرائيليين لا يؤمنون بقدرة جيشهم وقيادتهم على “تدمير حماس”، وربما كان أكثرهم وضوحاً إيهود باراك، رئيس الوزراء الأسبق، والذي قال إنه “لا يمكننا القضاء على حماس بصورة كاملة، فحماس هي أيديولوجيا، وهي موجودة في أحلام الناس، وفي قلوبهم، وفي عقولهم”!!

شهر مرّ على الحرب العاتية، والتي بدأت بعد الحدث الكبير في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ولا تزال “إسرائيل” تائهة في خريطة أهدافها غير الواقعية، تماماً كما تتيه في زقاق غزة.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى