بـين الـشر و الخـير

لكم أدهشني هذا التماثل في التفكير و التعبير بين شاعر مجهول من أعراب البادية و المتنبي الشاعر الأشهر في تاريخنا الأدبي حين وجدتها يتماثلان في إدانة الجنس البشري عموما شعرا إذ يقول الأعرابي المجهول مثلا هذه الأبيات العجيبة:

كلابُ الناس إن فكّرت فيهم أضرُّ عليك من كَلَبَ الكلابِ
لأن الكلب لا يؤذي صديقا و أن صديق هذا في عذابِ
و يأتي حين يأتي في ثيابٍ وقد حُزِمَت على رجلٍ مصابِ
فأخزى الله أثوابا عليهِ و أخزى الله ما تحت الثيابِ

و يقول المتنبي في مقدمة قصيدته عن الحمى التي أصابته في مصر:

فلما صار ودّ الناس خبا جزيت على ابتسام في ابتسام
وصوت أشكّ في من أصطفيه لعلمي أنه بعض الأنام
أرى الأجداد تغلبها كثيرا على الأولاد أخلاق اللئام
و لست بقانع من كل فضلٍ بأن أعزى إلى جد همام

واضح من هذين المقطعين أن الأعرابي يصف الناس بأنهم أكثر ضررا على بعضهم من الكلاب مهما تخفوا تحت ثيابهم و مثله المتنبي حين نراه يشك في أي إنسان كان حتى من المقربين إليه لا لشيء إلا لأنه من فصيلة البشر ، و هي إدانة بالغة القسوة تشمل لديه حتى الاجداد.

ليس المتنبي و هذا الأعرابي وحيدين في موقفهما هذا من البشر إذ ما أكثر الفلاسفة و المفكرين و الأدباء الذين أدانوا للبشر على نزعة الشر التي تشوه نفوسهم جميعا ، فهل هذا الموقف صحيح بمعناه المطلق أم أن فيه كثيرا من المبالغة ؟ و لنفرض جدلا أن البشر عموما مسكونون بنزعة الشر و الخير معا غير أن نزعة الشر كما يبدو لدى المتنبي و أمثاله هي النزعة الغالبة على الجنس البشري فهل هذا صحيح ؟. و إذا كانت نزعة الشر لدى الكائنات البشرية عموما متغلبة حقا على نزعة الخير فكيف أمكن للحياة أن تستمر إلى الأن ؟.

و لكن إذا ما تعمقنا في هذه المعركة لا بد أن نواجه هذا السؤال الوجودي : ماذا يبقى إذن من الحياة البشرية إذا أنتصر الأشرار على الأخيار انتصارا كاملا؟ المنطق السليم يقول إن بقاء الأخيار على الحياة بنسبتهم العددية القليلة طوال زمن الحياة يدفعنا إلى استخلاص نتيجة فكرية أخرى تقوم على أن الحياة عموما على كوكب الأرض قائمة على ضرورة أساسية هي التناقض في الصفات بين الأحياء إذ لولا السواد مثلا لما ميزنا البياض و لولا وجود القسوة لما لاحظنا وجود الرقة و بهذا المعنى لا بد من القول إن كل المتشائمين عموما كالمتنبي و غيره لم يظفروا بانتصار فكرتهم كليا بغلبة الشر على الخير و إنما هم نبهوا إلى أهمية حرص الإنسان على سلامة نواياه و أعماله عموما كالحيوانات نفسها التي لا يقضي بعضها على بعض و لا تعتدي إلا لسدّ جوعها ، و هكذا تستمر الحياة بألوانها السوداء و البيضاء معا و أن لا حياة حقيقية من دون هذا المشهد من المتضادات بين الأحياء و الذين لا وجود له إلا لدى الملائكة …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى