بكائية على جدارية دمشق

ماذا تكتب في الذكرى الرابعة وبدء الخامسة للحرب في سوريا. المعارك لم تعد خبراً يُبنى عليه. مراوحة في العبث والدم وعدم الحسم. التصريحات، شتات من أقوال، لا تقود إلى حلّ. التعلّق بتصريحات كيري ونفي البيت الأبيض لما فُهم منها، على أنه تحوّل، يفيد بأن حبال الهواء كثيرة، والرياح تجري في طاحونة القتل: انتظار إشارات من إيران والسعودية، لا إمكانية للتنبؤ بغيرها. ما تزال الحال على ما كانت عليه، مع تعديلات طفيفة في مبنى اللغة ولياقات العلاقات، فيما نيران اليمن، تقطع الطريق على دمشق. توقّع وقف الدعم للإرهابيين والتكفيريين و «داعش» و «النصرة»، سابق لأوانه. الاتكال على ضربات التحالف الدولي، يتطلب الانتظار لسنوات. التعويل على مبادرات عربية، ضرب من السراب. الرغبة بأن تبلغ سوريا فصل الحسم، لا من يشبعها. فلا الأسد ومَن معه قادر على ذلك، ولا «المعارضة» بقواها كافة، معتدليها ومتطرفيها، قادرة على ذلك. لا ينتظر شيء من أردوغان أو من بوتين أو من المجموعة الأوروبية… خلاصة القول، لا إضافة على ما قيل. إنما، هي الذكرى الرابعة، ولا بد من قول آخر. يخص الإنسان السوري السويّ، وليس ذلك انخرط في إشعال نار جنهم. والسوريون الأسوياء، لا يتحدث عنهم أحد، كأنهم غير موجودين، أو، كأنهم قد ذابوا في المنافي، وتقوقعوا في أحزانهم، واستكانوا إلى يأسهم، بعد بلوغ القاع الهمجي الذي انحطت إليه سوريا، في أربعة أعوام.

لا بد من قول مختلف. لا في السياسة، بل في أطرافها المنسيّة. تأتي المأساة، من مواجعها، والتراجيديا من مفاصل روحها. وكل نص آخر، يقع في الرقابة والبلادة. وتوقع أو إضافة إلى ما جاء أعلاه.

]]]

تكره نفسك وأنت تكتب عن سوريا بالقلم. تحتقر نفسك عندما تتناول الحرب بالكلام، وتلفظ روحك. تشعر بالعجز وتستحقه عندما تسبل عينيك لتبكي ولا تجد دمعة يابسة تقشرها عن خدك. تسأل، لماذا في دمشق، انكسرت السماء زجاجاً في مآقينا؟

كأن سوريا نزفتنا. حربها أبد خماسيني ضروس… كان علينا أن نتقن الانتظار في مسيرة الجنازات التي لم تكتمل، أسوة بالظلال السود التي خلَّفتها أجساد تعرّت من بلادها.

في ساعات الصحو القليلة، تشتاق إليها، تصبو إليها، تستعيد تفاصيلها، تشم ياسمينها، تعبط ناسها، تتغنى بغير وزها، تستحضر «سائيلني يا شآم»، تدندن: «هنا الترابات من طيبٍ ومن طربٍ»، تتلو صلوات محمود درويش: «في دمشق: تسير السماء على الطرقات القديمة، حافيةً حافيةْ، فما حاجة الشعراء إلى الوحي والوزن والقافية». تبحث عن أسرار بردى وقصائد الماء، تغمرك الأسوار والقلاع والأساطير بزياحات التأمل: حجارة ناطقة، وتحت كل حجر حضارة… ثم تستيقظ من صحوك وتسأل: ألم يبق لهذه البلاد، سوى عكازات النهايات؟ تبكي، ولا تسمع نشيجك. فأنت باسل وخرافي ومختنق.

في ساعات الصحو النادرة، تغص بالدمع، كلما تسلّلت صورة من الذاكرة، أو كلما تقدم اسم ليعلن انتسابه للشعر والقصة والرواية والمسرح واللوحة والغناء واللحن… أبدٌ من الصمت أطفأ المخيلة ومحا الأسماء. استبدلت لغة الشعر والحياة وروائح المارة، بـ «الصليب الأحمر» وجمعيات الإغاثة وأعلام الأمم المتحدة و «رسل» البحث عن ضحايا لإطعامها مضغة أو كسرة حاف… ثم، في مرة تالية، تقرر التنقيب عن بشر حقيقيين عرفتهم في الحارات والساحات ومنصات الكتب ومنتديات الشعر والكتابة، وطاولات المقاهي وثرثرات بليغة، فتجد أمامك وخلفك بشراً حقيقيين جداً، كانوا يحلمون بالموسيقى وبفلسطين، أو، كانوا يحلمون سراً، ثم علناً، ثم بصدور عارية، بالحرية والكرامة والديموقراطية… تنكفئ إلى روحك، فلا ترى غير موجات انطفأت برعب المواجهات. تسأل: أين هم؟ ثم تسأل الآخرين: أين هم؟ يقال لك: لن تسترجع أحداً منهم، لأنهم أغلقوا التاريخ أمامهم، ماتوا انتظاراً. لم يجدوا مكان إقامة. صاروا أرقاماً تجوز عليهم الرحمة.

]]]

خوفاً من التبلُّد، تقترض من العابرين بكاء لتظل بشراً. تتنفس هواء برائحة الخيام. إنها رائحة المنفى في العراء… تسأل نفسك، وأنت تعد ما تبقى أمامك من شقاء النزوح والطواف والمذلة، مرتعباً من الوقوف على حافة السنة العاشرة أو السنة الخمسين للحرب: أما كان ممكناً للربيع السوري أن يأتي بخطى مرهفة، خفيفة الوطء، ويُستقبل بترحاب، وأن تفسح له البنادق الطريق إلى الحرية؟ تكظم سؤالك، وتجيب بنفسك: أنك تمشي في حلم. الأرض في سوريا كانت قد طلقت الرحابة. كانت شوارعها محفوفة بمخاطر القول الحقيقي. مسوّرة بشجر غامض مسكون بإصغاء ما تهجس به وما تنقله «كلاب الحراسة» إلى جلاوزتها. تسأل: أما كان ممكنا للقطعان النائمة أن تظل في نومها، وتكتفي بأن تحلم سراً، ريثما يقضي الله أمراً مفعولاً… تغضب من إجابتك. تقول بتهور: لا. لم يكن ممكناً تأجيل الولادة. ثم تتمتم: ولكنهم قتلوا الوليد، غبّ ولادته عارياً، في الشارع. تسأل بغباء طيب النية، أما كان ممكناً قسمة الولد نصفين؟ تذهل من الإجابة: يا للجحيم. وتستنتج، كل ما كان مستحيلاً حدوثه، قد حدث. كل ما لم يكن متوقعاً، قد وقع. شيء يشبه الشيب الذي يصيب الولدان في الأرحام. السماء في سوريا، تمطر دماً، منذ أربعة أعوام.

تتردد. ليس في قدرتك على فهم التراجيديا، إلا إذا كنت أحد نصوصها أو واحداً أو ممثليها. ولكنك متفرّج من بعيد. والتراجيديا السورية تنام معك وتقض مضجعك. تأكل معك في الصحن، والغصّة هواء لا يُستساغ. تدير ظهرك لها، تجدها قد حاصرتك في كل مكان. حاضرة في غرفتك، تدخل عليك من الشاشات، مُخضّبة بصدق وأكاذيب. تختلط عليك الصورة، تتشظى. ترتاح من المساءلة، وتلقي المسؤولية على الجميع، وتعلن: الكل مذنب. الكل مرتكب. لا بريء أبداً.

متأخراً، تستثني القتلى، والمعتقلين والمخطوفين والمعذبين من الأهالي، الذين صاروا أهلنا، من دون أن نعترف بهم، ومن دون أن يجدونا معيناً لهم، أو معهم.

]]]

مَن يطفئ هذه الحرائق؟ تتعثر الرؤيا لسيادة الفراغ في المشهد الإنساني. المشاركون في إطلاق النار، لن يكونوا من مروّجي السلام. أربعة أعوام، أنهت الحرب الكونية. أربعة أخرى، أنهت الحرب العالمية الثانية… وما تزال سوريا تغزو الزمن. قيل، هي أسوأ حروب القرن. مبالغة مبررة. هي الأسوأ، إذ ليس في الأفق، غير المزيد من القتال. والسنوات تترى.

تستسلم: ما أصعب أن تزرع وردة في هذه البلاد. ربيع قليل، فتح أبواب جنهم على سوريا. كان ربيعاً بأصابع أطفال. لم يعد لأطفال سوريا أصابع، إلا إذا كانت لصيقة الزناد. السلطة لا تحب الربيع. استبدلته بفصل لا يتصل بزمن التغيير. السلطة تؤمن بفصل واحد. هو فصل الأبد. انتهى الربيع قتلاً، ومنذ ذلك اليوم، صار القتل دين السوريين، من كل الأتباع.

تكذب على نفسك: لا بد أن حلاً يُطبَخ بين العواصم. قد يساعد الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن، على حل، يرضي الذئاب بعد موت الغنم. تكذب أكثر: أميركا اقتربت من النظام مللمتراً، لا شك في أن حياكة ما قد بدأت، لنسج خريطة طريق، تستبعد هذه الخزعبلات: النظام يزداد دعماً. إيران وأميركا معاً في المعارك ضد «داعش». النظام يستفيد. سيكون جزءاً من الحل، ولن يكون هو الحل. ثم، «يأتيك بالأخبار من لم تزوَّد»: أميركا ستضغط على النظام للقبول بحل، تتبدل فيه السلطة. تستنتج: الضغط سيكون بالقتال، قتال يُضاف إلى قتال. سيُعاد تمثيل المقتلة مرة تلو مرار.

تلجأ إلى الواقعية والحسابات الدقيقة وموازين القوى والمشهد الإقليمي. تتملى المشهد نفسه، تتأمله وتتعمق في فهمه، تحلل الخيارات المطروحة ومدى ملاءمتها لمنطق الحلول، فتكتشف أن نهاية الحرب بعيدة. لم يعد السوريون وحدهم أسياد الحرب على أراضيهم. المعارك الطاحنة، تدار جماعياً، النظام وإيران و «حزب الله» وروسيا و… في خندق، معارضو النظام و «داعش» العظمى و «النصرة» وما تبقى من «الجيش الحر» وفلول الإسلاميين بأسمائهم كافة، من خندق، تتناحر وتتقاتل هيئاته وقواه، إلى جانب قتالها للنظام. المسألة شائكة ومستعصية: هناك حروب داخل الحرب الكبرى، وهي حروب على الحروب وضدها.

تُصاب بالدوار، فتلتمّ حول نفسك. تلجأ إلى الصلاة، فتجد أنك نسيتها. لقد امتلأت بالذهول وبالفراغ.

]]]

تنتابك أحلام يقظة: ترى بلاداً بعد 10 أعوام، بعد 20 عاماً، بعد مئة… ترتسم في رأس الصفحة خريطة أمة جديدة نهضت من رمادها، متطهّرة من أدران المذاهب والطوائف والأعراق والقبائل. تكتب حضورها بإنسانها ويكون إنساناً نقياً، لم تلوثه عقيدة أو عصبية أو ثقافة بتراء. إنساناً مستقلاً عن سوق النفط وأسواق العولمة الذئبية… إنساناً عادياً جداً، طبيعياً جداً، له عقل وقلب وعواطف وآمال وطموحات. إنساناً منتمياً باختياره لقضاياه الجميلة ذات القيمة الأسمى: الإنسان، إذ لا يسمو أحد غير الإنسان. ولا سموّ إلا به. سماء الإنسان أرحب وأجمل من سموات الآلهة وتداعيات ناسها على مر العقود وأزمنة الفتنة وبيع صكوك الغفران ومواثيق الشهادة والحور والغلمان.

إنسان طبيعي جداً. يأكل ويشرب وينام ويحب ويبدع ويُنجب ويتسلَّى ويُنتج ويغني ويرقص ويبني، ويرتكب الحماقات الجميلة، ويبتدع الكذبات الضرورية. كائن طبيعي بكامل نقصانه، من دون رادع أو وازع أو قامع، غير القانون والخير العام… إنسان يفتخر بأنانيته الجميلة، لاتصالها بغيرية رائعة. إنسان، ككل البشر، حريته أولاً، وحرية الآخرين أولاً مشددة.

… إنسان عربي، لا يمتّ إلى عروبة النقاء اللغوي، والانتماء الديني، والتسلط الحزبي والديكتاتورية البدائية. إنسان عربي، «يدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه»، على طريقة ابن عربي.

أحلام يقظة هذه، تستيقظ منها، لتجد أنك ما زلت في سوريا، وأن البلاد تفرغ من ناسها، وتطفر إلى ملاجئ الذل وخيام العوز وفلاة الفاقة والتشرد مع كل ريح… أحلام يقظة، تستفيق منها، على أطفال من سوريا، فقدوا أمهم، يوم خرجوا أو أخرجوا من سوريا، ثم صاروا بلا صدر يحنّ عليهم… ملايين، أي ما يقدر بشعب كامل، زاغت به الدنيا. يهرب من الموت المحتم قتلاً وقصفاً وحرقاً، إلى عبّارات الموت في المتوسط. يتوسل أماناً ما، لقمة ما، عيشاً ما، فيواجه بعنصرية قاتلة تهين فيه تقاليده وتراثه، وتهين ذكرى، كانت فيه سوريا، ملجأ وأماً وحاضناً للهاربين من فلسطين ولبنان والعراق و…
]]]

تستسلم.

تتمنى ألا تكون قد ولدت هنا، وفي هذا الزمن. تتمنى أن تكون مقطوعاً عن سلالتك وماضيك. ماضٍ مثقل بالدماء، أكثر حضوراً من كل صباحات الأيام العربية، من المحيط إلى الخليج. تتمنى لو أن هذا الإرث لم يوجد، أو قد قتل ودُفن. تتساءل: أي جاذبية لهذه البشاعات التي تملك جاذبية الاحتشاد للدفاع عنها ولنصرتها.

تتمنى أن تكون ولدت في بلد ديموقراطي، بنسبة معقولة، فلا تكون، منذ خروجك من الرحم، خطراً على النظام، فيصار إلى تقليم أظافرك وقطع أصابعك وتعليمك نشيد القائد بدل النشيد الوطني. تتمنى أن تكون دمشق، كما رآها محمود درويش في «سرير الغريبة»:

«في دمشق، ينام غزال إلى جانب امرأة في سرير الندى، فتخلع فستانها وتغطي به بردى».

تتمنى لو تكون بردى.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى