تاريخ

بلاد الشام في التقارير الأمنية الفرنسية [6\6]: مشاريع الاستيطان في الاسكندرون وأعالي الفرات وتدمر

بدر الحاج

تدفقت على سلطات الاحتلال الفرنسي المشاريع المتنوعة بهدف الاستيطان في بلاد الشام في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي. بعض مقترحات تلك المشاريع حدد المناطق المفضلة للاستيطان والبعض الآخر كان يهدف إلى فتح الباب أمام تدفق المهاجرين اليهود من أوروبا والاستيطان في أي مكان تختاره سلطات الاحتلال. الوثائق السرية الفرنسية العدة تشير بالتفصيل إلى أصحاب تلك المقترحات وتعهّدهم بتخصيص الأموال الضخمة لتنفيذ تلك المشاريع التي ستجلب كما ادعوا «الرخاء الاقتصادي» لسوريا.

 

لم تكن سلطات الاحتلال في وارد السماح للاستيطان اليهودي وفق أي صيغة، سواء أكانت عبر أشخاص أم جمعيات أوروبية يحمل بعض المشرفين عليها الجنسية الفرنسية ويتستّرون خلفها لتنفيذ المخططات الصهيونية، أم عبر التعهدات بتدفق الأموال وإنعاش البلاد في مرحلة أزمة اقتصادية شهدتها في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. السياسة الفرنسية المتبعة تجاه الاستيطان كانت الرفض، وهذا ما جرت عليه من عقد العشرينيات باعتبار أن الاستيطان اليهودي هو خطر على النفوذ الفرنسي في سوريا.

نشرتُ في الكتاب الذي أعددته بعنوان «الوثائق السرية الفرنسية للاحتلال الفرنسي، ترسيم الحدود الجنوبية وتطور المشروع الصهيوني في فلسطين 1895-1925» وثائق فرنسية عدة ترفض مبدأ الاستيطان اليهودي في سوريا، وبصورة خاصة قرارات المندوب السامي الجنرال ويغان الحاسمة بمنع الشركات التجارية السورية أو اللبنانية أو الأجنبية الاستحواذ على الأملاك غير المنقولة أو امتلاكها أو التصرّف بها.

تولى ناحوم ساكولوف المقرب من وايزمن ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية الإشراف على مخططات المشاريع التي جرى تقديمها للسلطات الفرنسية في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي. واعتبر الصهاينة أن حملات القمع التي تعرضوا لها بسبب صعود الفاشية في أوروبا، وبصورة خاصة في ألمانيا، سبب بديهي لأن تعامل سلطات الاحتلال المهاجرين اليهود أسوة بالمهاجرين الأرمن الهاربين من المجازر التركية والذين استوطنوا في سوريا.

نظرت بعض دوائر السلطات الفرنسية بإيجابية إلى استيطان كبار الرأسماليين اليهود، ولكنها وضعت شروطاً قاسية لقبول هؤلاء الرأسماليين. في المقابل، كانت مخططات المنظمة الصهيونية العالمية استقدام أعداد ضخمة من المهاجرين، لذلك لم تفلح محاولات استقدام المهاجرين الرأسماليين.

سأكتفي بنشر مضمون بضع وثائق تشرح مشاريع الاستيطان المنوي تنفيذها وتطالب بالموافقة الفرنسية عليها.

نقرأ في وثيقة بتاريخ 24 أيلول 1924، بتوقيع إميليو جافيه الذي يدير في بيروت وكالة سفريات وسياحة، موجهة إلى المندوب السامي لفرنسا في سوريا ولبنان من المديرية العامة لشركة دانتسيغر رايز بوروDanziger Reise Buro)) من دانتسيغ تطلب السماح لعشرة آلاف مزارع يهودي من دانتسيغ وبولونيا بالاستقرار في الدول الخاضعة للانتداب الفرنسي. وتشير إلى أنّ «هؤلاء الفلاحين ليسوا أعضاء في أي منظمةٍ صهيونية أو يهودية، وإلى أنّهم لا يتبعون أي هدفٍ سياسي. تقتصر نيتهم على اكتساب أراضٍ في البلد، سوف يستثمرونها بأنفسهم لإحداث تنميةٍ زراعيةٍ محضة.

وهم يقولون إنهم سوف يطورون زراعة المنتجات الزراعية القابلة للتصدير، وهي منتجاتٌ لم يتم العمل عليها كفايةً حتى الآن في البلدان الخاضعة للانتداب. مع وعد بألا ينافسوا سكان البلد، وأن يستثمروا رؤوس أموالٍ لن تقلّ عن مئتي مليون فرنك وسوف يستصلحون في سوريا ولبنان أراضي هي حالياً بورٌ ولا تدرّ شيئاً.

كذلك وعدوا أيضاً أن تودَع مسبقاً رؤوس الأموال التي سوف تستثمر في مصارف محلية قبل وصول الفلاحين، ما يضمن نيتهم النهائية في إفادة البلد برؤوس أموالهم وعملهم. هؤلاء المهاجرون مستعدون لتبني الجنسية السورية أو اللبنانية إن وافقت الحكومة المعنية على ذلك». وفي ختام المذكرة، طلب أن يحظى المشروع بموافقة إيجابية بهدف النهوض الاقتصادي كما ادعوا.

الاستيطان في الاسكندرون، أنطاكية، وتدمر

في 10 تشرين الأول 1934 قدمت جمعية الدراسات الفرنسية – السورية إلى الكونت دو مارتل بتوقيع بوريس غوروفيتش (Boris Gourevitch) الأمين العام للجنة الدفاع عن اليهود في الشرق مذكرة تعرض برنامج الأشغال العامة التي تنوي القيام بها في دولتي سوريا ولبنان والذي يهدف إلى فتح أراضٍ غير مستثمرة حالياً أمام الاستعمار (ولا سيما الاستعمار اليهودي).

من مقترحات الجمعية «جلب مستعمرين فرنسيين، بولونيين أو روس، وكذلك دانماركيين مجبرين على مغادرة أوروبا بسبب البطالة. ولتحقيق ذلك، تنوي الجمعية القيام بأعمالٍ واسعةٍ في مجالات الري والزراعة وتجفيف المستنقعات وتقديم تمويلٍ كبيرٍ لاستصلاح الأراضي القابلة للزراعة وجلب رؤوس الأموال الأجنبية إليها، وستتيح تلك الأموال للمهاجرين البقاء في البلد وخدمة المصالح الفرنسية والسورية فقط. ووعد بإدخال الكهرباء، وإقامة سكك حديدية تفتح منافذ تجارية جديدة، ومؤسسات صناعية».

وبهدف إغراء السلطات الفرنسية بالقبول، اعتبر غوروفيتش أن تنفيذ مشاريع ضخمة ستؤدي إلى عدم مغادرة عشرة آلاف سوري كل عام والهجرة بحثاً عن حياة جديدة. واقترحت الجمعية، بناء على خبراء تم تكليفهم، تجفيف سهل العمق في الاسكندرون والحيلولة دون الفيضانات التي تصيب مزارعي السهل بالإفلاس، وكذلك القيام بمشروع مماثل في بحيرة أنطاكية والتي تؤدي ضحالتها إلى صعوبة إضافية في تصريف المياه.

وتضيف المذكرة أن النشاط الاستيطاني المنوي تنفيذه يشمل أيضاً تحسين الزراعة اللبنانية وري سهل الغاب واحتجاز مياه الشتاء في أعالي نهر الفرات في الممر الواقع في أعالي بيرجيك، وإعادة بناء الري القديم في دير الزور والأراضي التي تمتد بين أعالي الفرات وحتى صحراء تدمر، ما سيسمح بإعادة الحياة للمساحات الميتة التي كانت توجد فيها مئات المدن في الحقبة الرومانية.

وتواصل تدف تقديم مشاريع الاستيطان في أماكن عدة في سوريا ولبنان. ففي نيسان 1934 تقدّم رجل أعمال فرنسي يدعى غابرييل ارنو، المقرب من وايزمن، إلى وزارة الخارجية في باريس باقتراح البدء في تشجيع استيطان الجماعات اليهودية في دولة العلويين نظراً إلى كون المنطقة خصبة وقليلة السكان. واعتبر الموافقة على ذلك بمثابة الخطوة الأولى للاستيطان في سوريا ولبنان.

تم رفض المشروع وكذلك مشاريع مماثلة تقدم بها فون ويل المستشار السياسي للزعيم الصهيوني جابوتنسكي، وكذلك تقدّم في كانون الثاني 1937 الداعية الصهيوني كادمي كوهن بمشروع يهدف إلى فتح مناطق المشرق أمام الاستيطان وبصورة خاصة في جنوب لبنان مطالباً بشكل رسمي رئيسي الجمهورية اللبنانية والسورية الموافقة على توسع حدود الانتداب الفرنسي في فلسطين إلى داخل لبنان وسوريا وفقاً لمذكرة الوكالة الصهيونية التي تقدمت بها الوكالة اليهودية إلى مؤتمر الصلح في فرساي عام 1920.

كل العرض أعلاه هو من التاريخ، ولكن ماذا عن اليوم؟ لا أجد ضرورة لمزيد من الشرح؛ بلادنا مستباحة من العدو الصهيوني الذي يمارس القتل والتدمير يومياً، كما يواصل قضم المزيد من الأرض. في المقابل، صمت مطبق من حكام بيروت ودمشق. كل مقاوم للغزوة الصهيونية متهم وملاحق. من قال إن الصهاينة بحاجة إلى أن يحكموا مباشرة في بيروت ودمشق، ما داموا يحصلون على ما يريدون؟

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى