بلاغة الحَطَب
ها أنذا أقترب من التسعين ، و ياله من رقم !
أقترب إذن من الشيخوخة التي تعني لدى كثيرين الخرف و النسيان و انهيار الجسد ، لم يبق سوى عامين لبلوغي هذا الرقم المخيف الذي يضعني على حافة الهاوية و شيئا فشيئا أكتشف أن كل هذه المتاعب لم تحقق بعد سيطرتها التامة علي إذ أجدني ما أزال أنام جيدا و أكل و أشرب جيدا و أفكر بشكل أعمق من أية مرحلة مررت بها في حياتي .
هنا توقفت كما يصنع التائه في غابة كثيفة كي يرى نفسه سليما من غزوات الخوف و المرض و أهوال الضياع و أن أضواء عقله تنبه كل حواسه إلى جمال الطبيعة التي تحيط به ، و روعة الحياة التي تنبض في عروقها و أنه قد آن الأوان للعجوز التائه أن تهدأ خواطره كي يوظفها جمعاء لإرتشاف حلاوة المشاهد التي يراها على هولها في غابته هذه و حلاوة المشاعر التي يحس بها و عمق الأفكار التي تراوده و هو يتابع الكون حوله و فوقه و تحته …
هنا بزغت في أفقه هذه الأسئلة عن الشيخوخة : ماذا تعني ؟ وكيف يتعامل معها ؟ و إلى أي مدى يمكنه توجيه طاقاته و استخدامها الآن؟
ما هي الحياة و ما هو الموت ؟ لماذا وجدنا و لماذا نرحل ؟..
كنت مستلقيا في فراشي حين راودتني هذه المعضلات فإذا بي لا أجد حلا لها إلا في الشعر و إذا بي أجد أبيات القصيدة تتراقص في ذهني و تقفز إلى ساحة الوعي الكامل لدي جملة بعد أخرى و بيتا بعد بيت و أجدني أتنزه في حديقة الشيخوخة و أنا أمجدها عبر صور حافلة بالحركة لعيد من أعياد قطاف العنب و هي في أوج مهرجانه بالرغم من شعوري مع كل هذا الفرح أن نهاية هذا المهرجان باتت قريبة جدا .
و حين أنهيت المقطوعة الشعرية التي نظمتها وضعت لها فورا هذا العنوان الطريف :
(بلاغة الحطب ) و ما الحطب هنا سواي و أنا أمجد الشيخوخة في عرسها الأخير…
اليوم لاحصرمٌ ولا عِنَبُ عيد القطاف انتهى و لا عَجَبُ
ليس سوى الذكريات مُنتجعاً لكلأ الروح عندما تَهَبُ
مدّ يداً طالما تخيلها قطّافةً يستثيرها اللعبُ
كأنّ عنقودها له و ترٌ من لمسةٍ يستفزّه الطربُ
و الآن ليس الرخامُ مقبرةً لكلّ هذا و إنما القصبُ
أعوادهُ في اليباسِ شاهدةٌ وأنّ الذي ماتَ إسمُه ُالعِنَبُ
أنا على الدربِ أم مُخيّلتي شاخت و غازي الكروم يقتربُ
نهضتُ من سقطتي لأخبرهُ أن شرابي صفا كما الذهَبُ
بعضُ جذوري قَضت فوا فرحي أنّ البقايا غداً ستنتصب ُ
داليتي كلمةٌ فإن بَقيت لي كلمةُ فالمفوّهٌ الحَطَبُ