‘بلفيو’ نقد لا هوادة فيه لعالم يغذي الاكتئاب
كان من المفترض أن تكون إجازة لا تُنسى في مدينة مرسيليا، الهروب من الملل السلوفاكي، التطوع في مركز بلفيو للأشخاص ذوي الإعاقات الجسدية والنفسية، وبعد الظهر على الشاطئ. لكن السبب الرئيسي للشابة السلوفاكية بلانكا هو فرصة ممارسة لغتها الفرنسية في بيئتها، إن بيئة مركز بلفيو غامرة حقًا، ولكن ليس بالطريقة التي ربما كانت تفكر بها بلانكا. إنها تكافح بإخلاص لتكون حول الأشخاص ذوي الإعاقة في المعهد، والتعامل مع الأشخاص غير القادرين على رعاية أنفسهم، لكنها تجد عملها معهم مرهقًا، وفي غضون يومين، يرتفع توترها إلى مستوى يجبرها على إيجاد منفذ لقلقها المتزايد.
في هذا الإطار تأتي رواية “بلفيو” للروائية إيفانا دوبركوفوفا، التي ترجمها د.خالد البلتاجي، فالمواجهة المستمرة للمرض والإعاقة والألم تحول إقامة بلانكا في مركز بلفيو إلى كابوس، هناك علامات تدريجية على تأثر صحة بلانكا العقلية جراء وجودها في بيئة الإعاقات هذه، ووجود خلفيات حياتية تسهم في تفاقم الأمر، لا تقبل بلانكا جسديتها، تصبح مهووسة بأن جسدها سوف يتفوق عليها في يوم من الأيام، وأنه سوف ينتهي بها الأمر عاجزة ومعتمدة على الآخرين.
عندما تواجه بلانكا حقيقة التعامل مع الأشخاص في مركز بلفيو، تجد نفسها منزعجة من عدم تحكمهم في أجسادهم، سواء كان ذلك بسبب السمنة المرضية، أو سيلان اللعاب المستمر، أو الحاجة إلى التبول في أنبوب، أو ذبول الأطراف، ويتحول الأمر إلى خوف من عدم السيطرة على جسدها بل يصبح أكبر مخاوفها.
وهنا تذهب بنا الرواية الصادرة عن دار الترجمان إلى حياة بلانكا حيث تتغير وتضعف لغتها جنبًا إلى جنب مع تدهور صحتها العقلية، وسرعان ما يتضح أن بلانكا لديها تاريخ من الاكتئاب والإحباط والعزلة والأدوية الموصوفة، لذا فهي في حالة رعب من أن تصبح مثل الأشخاص المعاقين الذين يعيشون بمركز بلفيو بشكل دائم.
تتدهور حالتها العقلية سريعا وتتحول إلى اضطراب داخلي يفقدها السيطرة على عواطفها، تنهار لغتها، ويتجزأ أسلوبها، ويتكرر، الأمر الذي ينعكس في تحولات طفيفة في أسلوب الكتابة، وخاصة في علامات الترقيم التي تفشل تدريجياً، وتفقد الجمل تدريجيًا أي علامات ترقيم تجعلها منطقية. ليس هذا هو التحول الأسلوبي الوحيد، فالسرد يتغير من الفعل الماضي إلى الحاضر، مما يخلق إحساسًا بالفورية؛ لم يعد الكلام المباشر محددًا، مما يمحو الفرق بين أقوال بلانكا وأفكارها المرضية المحمومة.
عندما يحاول أصدقاؤها الجدد في بلفيو مساعدتها، تنشكك في دوافعهم، إنها عملية مزعجة ومع ذلك فهي مقنعة بشكل لا يصدق. وما يجعل الأمر مرعبًا للغاية هو السهولة التي تسقط بها في مخالب الوهم والجنون، مما يجعل القارئ يشعر بأنه أمام شيء يمكن أن يحدث لأي شخص.
إن عدم قدرة بلانكا على الإيمان بصلاح أو لطف واهتمام أو صدق الآخرين يدفعها إلى المزيد من الاكتئاب والتدهور النفسي، فهذا صديقها دراجو يقدم نفسه على أنه مهتم بها، ويريد مساعدتها، لكن خططه المزعجة تعزز باستمرار عدم استقرارها، وأوجه قصوره الخاصة تُظهر بشكل مقنع عجز الإيثار لديه. ربما تكون هذه هي الرسالة الرئيسية لـ “بلفيو”: ما فائدة معالجة الأعراض إذا تجاهلنا السبب الأساسي؟.. إذا كانت بلانكا مسؤولة عن اكتئابها وعزلتها النفسية، أليس هذا اتهامًا لمجتمع بارع جدًا في إلقاء اللوم على الضحية بدلاً من استجواب نفسه؟.
تتميز “بلفيو” بسرد شجاع وكاشف للمرض العقلي، ونقد لا هوادة فيه لعالم يغذي الاكتئاب والوحدة والهوس والجنون بتناقضاته وأكاذيبه، ويلقي بإختلاله ونواقصه بشكل مقنع على حيوات أفراده.