بلند الحيدري.. خفقة الإبداع وريادة ما قبل الحداثــة
إلى بلند
نولدُ في الغربة أم نموتُ؟
هل تعرف الأشجار والبيوت؟
وجوهنا
وإنّنا
نولد كلّ ساعة
نموت كلّ ساعة
وحولنا تولد أو تموت
الناس والأشجار والبيوت
سعدي يوسف
حين أهداني مجموعته الأخيرة ” دروب في المنفى” كتبَ لي: “… فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه”، والفقرة هي مقطع من قصيدة “غريب على الخليج” لبدر شاكر السيّاب، وعلّق بلند قائلاً: وهكذا ننتقل من منفىً إلى منفى، ثمّ فتح المجموعة وقرأ منها:
أهرب من منفى إلى منفى
وأنا لا أحمل في صدري إلّا رمسي …
لكنّني إنْ متُ هنا في الغربة .. في المنفى
إنْ متُ غداً فسيحمل شاهد قبري: هذا وطني
هذا من أجلك يا وطني..
(من ديوان دروب في المنفى)
وبالمناسبة فهذه الأبيات وُضعت على شاهد قبره في مقبرة هاي غيت في لندن بالقرب من قبر كارل ماركس وقبور عدد من المنفيّين اليساريّين العراقيّين.
ولعلّ ذلك ما كان ينطبق على حالنا، حيث أكلت المنافي أكثر من نصف عمرنا البيولوجي، وما يقارب ثلثَي عمرنا الإبداعي، وبعد وصولي إلى لندن في العام 1990 اتّصلتُ به، وكان هو قد استقرّ فيها بعد ثلاث عشرة سنة عاشها في بيروت، لكنّ منفى بلند الفعلي كان قبل هذا التاريخ، حين تمرّد على مجتمعه، وعاش حالة من الاغتراب، فترك الدراسة في سن مبكّرة وهجر العائلة، ليس هذا فحسب، بل انشقّ على القصيدة العموديّة التي عاشها الشعر العربي لمئات السنين، باحثاً عن معنىً جديد وشكلٍ جديد ورسالة جديدة.
أسّس بلند مع ثلّة من أصحابه جماعة أدبية فنّية أطلق عليها اسم ” جماعة الوقت الضائع” وهو في بداية مشواره الإبداعي. كما مارس في فتوّته أنواع الرياضة ورغب أن يكون مُلاكماً مقلّداً شقيقه صفاء الشاعر والمتمرّد، الذي نصب خيمة سوداء في بساتين ديالى (بعقوبة) وقرَّر العيش فيها تحدّياً للتقاليد الاجتماعيّة السائدة، وكان صفاء قد انشغل بالشعر واللّغة العربيّة، وهو ما فعله بلند أيضاً، علماً بأنّهما ينتميان إلى عائلة برجوازية بحسب توصيفات تلك الأيّام، فوالده أكرم كان ضابطاً في الجيش العراقي وتوفّي في العام 1945، ووالدته فاطمة إبراهيم أفندي الحيدري التي كان والدها يشغل منصب شيخ الإسلام في إسطنبول (توفّيت في العام 1942)، وخاله داود كان وزيراً للعدل، لكنّ بلند قرَّر إحراجه وإحراج العائلة حين نصب طاولة منهكة وكرسيّاً بالياً ليعمل ” كاتب عرائض” (عرضحالجي) أمام الوزارة، وفي الوقت الذي كان عدد من أفراد عائلته يتولّى مناصب رسميّة، فإنّ عدداً آخر منهم انخرط في الحركة الشيوعيّة، من أبرزهم جمال الحيدري الذي قُتل تحت التعذيب وشقيقه مهيب أيضاً بعد انقلاب شباط (فبراير) في العام 1963.
لم يدرس بلند الشعر في جامعة أو معهد، بل جاء إليه من خارج المَناهج الأكاديميّة والحلقات الدراسيّة، في حين كان أقرانه قد درسوا الشعر والأدب واللّغة في دار المعلّمين العالية وكليّات الآداب والتربية في ما بعد، مثل بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهّاب البيّاتي ولميعة عبّاس عمارة وشاذل طاقة وعبد الرزّاق عبد الواحد وسعدي يوسف ورشدي العامل وآخرين. وحاول بلند تثقيف نفسه بنفسه، وكان يذهب إلى المكتبة العامّة لسنوات غير قليلة، ويقرأ، بل يلتهم ما فيها من الكُتب المُختلفة في الأدب والشعر والفنّ واللّغة والفلسفة وعِلم النَّفس والتربية، وكان يبقى لساعة متأخّرة من اللّيل، بالاتّفاق مع حارس المكتبة الذي عقد صداقة خاصّة معه.
“خفقة الطّين” وريادة التحديث الشعريّ
كان بلند حداثيّاً قبل ما نعرفه عن زمن الحداثة، حيث يُعتبر أحد أركان الحركة التجديديّة في الشعر العربي الحديث، ولعلّ ديوانه “خفقة الطين” الصادر في العام 1946، هو الأوّل الذي يؤرِّخ لحركة الشعر الحرّ، والتي أعقبت الحرب العالميّة الأولى، وامتدّت إلى الفنون الأخرى. أمّا أركانها فهي “المربّع الذهبي”؛ فإضافة إلى ركنها الأوّل بلند الحيدري، كانت الأركان الثلاثة نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهّاب البيّاتي.
وكان بدر شاكر السيّاب في العام 1953 قد اعترف بذلك قائلاً: ” كان هناك ثلاثة دواوين صدرت في العراق أوّلها ديوان ” خفقة الطّين” لبلند الحيدري، وثانيها ديوان “عاشقة اللّيل” لنازك الملائكة، وثالثها ديوان “أزهار ذابلة” لبدر شاكر السيّاب، وفتحت هذه الدواوين صفحة جديدة في تاريخ الشعر العراقي والعربي”. وقد كتبَ عن مجموعته الأولى بانبهارٍ الأديبُ والناقدُ اللّبناني مارون عبود في العام 1947 يقول: ” أشهد أنّ ديوان بلند الحيدري، خفقة الطين، أفضل ما قرأت من دواوين الشباب بالشعر، ولعلّه الشاعر الذي تحلم به بغداد”.
وقد ظلّ بلند يخفق طيلة حياته في الضياع والمنفى والغربة، وضمّت مجموعته الأخيرة “دروب المنفى” – 1996 خفقته الوداعيّة، وحملت قصيدته الأخيرة في المجموعة “ما بين ذراعَي أمّي” حنينه الأوّل إلى “البئر الأولى”، بحسب رواية جبرا ابراهيم جبرا، وهو حنين يشبه الارتعاش حين يقابل الموت الذي بقي هاجساً قائماً في جميع مراحل حياته وإبداعه:
ذات مساء ماتت أمّي
وعلى مدّ ذراعَيها استلقيتُ وكانت عينيّ
فانوساً أعمى يحملني من تيهٍ ولتيهٍ يبحث عنّي
في حيّ موبوء .. في حيّ
أخشى أن لا يبقى حتّى غبش الظن.
تأثَّر بلند بـ إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وإلياس أبو شبكة في بحثهم عن الخلود والوجود والعدم والحياة والموت، مثلما تأثَّر بسارتر وكيركارد وهايدغر، وهو ما عبّر عنه في أكثر من مناسبة. يقول بلند إنّ جيله شهد ثلاث ثورات لم يكُن بعيداً عنها، أوّلها – الثورة الأخلاقيّة، أي الثورة على الأخلاق السائدة، والثورة الثانية اليساريّة والماركسيّة جوهرها حينذاك، وثالثها الثورة الوجوديّة التي يقول إنّه انفرد فيها من بين أقرانه، واستفاد في ذلك من حواراته (مطلع الخمسينيّات) مع عبد الرّحمن بدوي.
وإذا كانت قصائده الأولى أقرب إلى التجريب، فإنّه بدا أكثر عمقاً وشمولاً بارتفاع الموجة الجديدة من الشعر الحرّ، بحيث أصبح جزءاً من مدرسة أخذت تحفر طريقها بثقة أكبر وتحدٍّ أشدّ في مواجهة القصيدة الكلاسيكيّة، وخصوصاً بعدما أصدر ديوانه الثاني “أغاني المدينة الميّتة” في العام 1951 وأعاد نشره في العام 1957 مع قصائد أخرى. وفي العام 1961 نشر مجموعة بعنوان” جئتم مع الفجر” ضمّت قصائد ما بعد ثورة 14 تمّوز (يوليو) 1958 وهو ما يوحي بها عنوانها.
وبعد تجربة سجنه نشر مجموعة جديدة (1965) تحت اسم ” خطوات في الغربة” ثمّ “رحلة الحروف الصفر” 1968 و”أغاني الحارس المُتعب” 1971 التي نالت جائزة “اتّحاد الكتّاب اللّبنانيّين”، ثمّ نشر في العام 1972 في بغداد، مجموعة بعنوان “حوار الأبعاد الأربعة”، وبعد منفاه اللّندنيّ نشر في العام 1984 ” إلى بيروت مع تحيّاتي”، وفي العام 1990 “أبواب إلى البيت الضيّق”، وكان آخر مجموعة له ” دروب في المنفى” 1996.
واكتسبت لغة بلند مسحة تشكيليّة أكثر منها إنشائيّة، بعيدة عن الزخارف، وبقدر كونها ترسم صُوراً بحروفٍ ملوّنة، فهي ترسل إشارات ناعمة ومؤثّرة في الآن، بحثاً عن الذات المتمرّدة وعن الأمل والإنسانيّة في ظلّ مجتمعات بائسة تعاني من شحّ الحريّات، وتركَ لنا بلند علامات دالّة على الطريق لتؤشِّر إلى تضاريس لتجاوُز القصيدة الكلاسيكيّة.
جدير بالذكر أنّ الحركة التجديديّة في الشعر لقيت دعم وتشجيع بعض المُبدعين الذين كان يُنظر إليهم كمرجعيّة للحداثة، وكان من أبرزهم في العراق الناقد والأديب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا، الذي يقول عنه بلند في حديث مع الكاتِب (1991) إنّه أكثر من استقبل نِتاجهم الإبداعي بإعجاب وتشجيع، حيث كان يرى في بلند وبدر شاكر السيّاب شاعرَين مجدِّدَين وإن اختلف أسلوبهما في كتابة القصيدة الحديثة. وكان يؤكِّد على بدر الاستمرار في أسلوبه ما دامت الصور تومي كلّ واحدة منها إلى الأخرى، فبدر “عين وذاكرة” مرهفة مليئة بالصور، ويعترف بلند أنّ مفرداته كانت “أغنى من مفرداتي”.
أمّا عن شعر بلند فيقول جبرا إبراهيم جبرا في العام 1951 إنّه ” شعر صُور”، فهو كالفنّان الحاذق لا يلقي بالألوان على لوحته جزافاً، ولا يرسل الخطوط عليها أنّى اتّجهت، إنّه يورد تفاصيله مرتبطة متماسكة، فتنمو القصيدة بين يديه نموّاً من الداخل ككلّ الأعضاء الحيّة، وإذا بها وحدة مُتكاملة لها أوّل ووسط ونهاية، كما يقول أرسطو في وصف العمل الفنّي الصحيح، ويضيف جبرا: إنّ شعر بلند كالصور ذات الأعماق، فيها أضواء وظلال، فيها القريب وفيها البعيد، وكلّها تستهدف وحدة الموضوع وقوّته وبروز جماله.
اغتراب الورد
كم كنتُ سعيداً حين اطّلعت على الكِتاب الذي أصدره المنتدى الثقافي العربي – الأفريقي والموسوم ” بلند الحيدري- اغتراب الورد”، وأشرف على إعداده عيسى مخلوف، منشورات جمعيّة المحيط الثقافيّة، أصيلة، المغرب، ط1، 1997، وذلك لمناسبة الذكرى الأولى لرحيله. والكِتاب هو أقرب إلى استفتاء جديد على شعر بلند الحيدري بعد رحيله واعترافٌ برياديّته، وقد خصّص “منتدى أصيلة” (المغرب) جائزة للشعراء الشباب باسمه.
وقد تضمّن، إضافة إلى كلمتيْ التقديم لمحمّد بن عيسى والمدخل لعيسى مخلوف، 7 دراسات معمّقة لعبده وازن ومحي الدّين اللّاذقاني وصبحي حديدي ورفعت سلام وعابد خزندار وبنعيسى أبو همالة وأسعد عرابي، فضلاً عن شهادات وآراء عددها 22 لشعراء ونقّاد بينهم أدونيس وسعدي يوسف ونزار قبّاني وأحمد عبد المعطي حجازي وأدوار الخرّاط والطيّب صالح ومحمّد سعيد الصكّار وعبّاس بيضون وضياء العزّاوي وجابر عصفور وغيرهم.
ويعود سبب غبطتي إلى الشهادة الجماعيّة برياديّة بلند، الذي لم تُنصف تجربته في حياته من جانب الكثير من النقّاد، باستثناءات محدودة، وضاعت أحياناً في سجال التراتبيّة الزمنيّة والأسبقيّة والقصيدة الموزونة أو النثريّة والخروج على الوزن والقافية، على عكس تجارب السيّاب وعبد الوهّاب البيّاتي ونازك الملائكة، وفي بعض هذا التقييم دَور للسياسة التي تُعلي وتُخفض، فبموجبها مُنح عددٌ من الشعراء ألقاباً، بعضهم لا يستحقّها، وذُيّلت أو قُدّمت أسماؤهم بألقابٍ من خارج دائرة الشعر والإبداع، والأمر لا يختصّ بالشعر، بل بعموم مفردات الثقافة والإبداع.
وحين كان يُسأل بلند عن الريادة والأولويّة كان يجيب بشيء من عدم الاكتراث، وكأنّ الأمر لا يعنيه، ويردّد أحياناً بأنّ هذا الأمر لا يحتاج إلى كلّ هذا التحبير. وبقدر ما أُغفلت أو أُهملت تجربته ودَوره الريادي، فقد عومل في سنوات اغترابه، سواء في لبنان أم على امتداد الوطن العربي، بما يستحقّه من مكانة وتقدير. أمّا شموخه الذي كان يتعامل به، فهو مُستقى من اسمه الذي يعني باللّغة الكرديّة “شامخ” كصاحب الشأن ذاته.
حتّى وإنْ كانت صوره ” باذخة” وأنيقة ونبرته قويّة وواثقة، إلّا أنّ لغته كانت “مقتصِدة”، لتعبّر عن الإيجاز والتكثيف. فقد كتبَ بلند قصيدته بتركيزٍ كبير أقرب إلى أسلوب البرقيّات، وهو ما دعا جبرا ابراهيم جبرا إلى أن يُطلق عليه بحقّ صاحب القصيدة التلغرافيّة “البرقيّة”. ويقول بلند مُعترفاً بنصيحة جبرا: ” أصبح همّي الرئيس هو الإيجاز في قصائدي”؛ ولعلّ علاقته بالفنون التشكيليّة والموسيقى، هي التي جعلته يختار هذا الأسلوب.
ويعترف بلند في شهادة خاصّة عن علاقته ببدر شاكر السيّاب، أنّهما كانا قد تأثّرا بالحركة العالَميّة للشعر الحديث عن طريق المهندس قحطان المدفعي الذي عاد إلى بغداد بعدما أنهى دراسته في لندن، وقد حمل معه تسجيلات صوتيّة لعددٍ من أدباء العصر بينهم: إليوت وآراغون، ويقول إنّ ذلك كان له تأثير عليه وعلى بدر، حين ” كنّا نلتقي مرّة في الأسبوع عند قحطان المدفعي لنستمع إلى هذه الإسطوانات لساعات وساعات، ونحاول أن نستلهم منها ما يعطي إضافة جديدة لتجربتنا الشعريّة”. ويعترف بتسرّب “إيقاعيّة إليوت” إلى تجربته الشعريّة.
العشق الملوّن
“بيروت … يا موتاً أكبر من تابوت
يا موتاً لا يعرف كيف يموت …
لن يعرف كيف يموت”
كانت بيروت التي عاشها بلند الحيدري ” بيتاً حميماً ذا أبواب عديدة”، وكما يقول: ” كان لكلٍّ منّا أن يجد نفسه في الباب الذي يُريد أن يكون فيه: المسلم مسلم والمسيحي مسيحي والمؤمن مؤمن، ولكلّ منّا أن يعبّر عن نفسه بكثير من الحريّة.”، وهي ذاتها بيروت التي عرفتها وكتبتُ عنها نصّاً بعنوان” العشق الملوّن” يوم كرّمتني الحركة الثقافيّة في انطلياس 2017 بقولي :” لا أستطيعُ استعادةَ ذاكرتي الطّفليّةِ المكتظّة بصور مختلفةٍ ومتنوّعةٍ دون أن تشعَّ في إحدى زواياها بيروت بكلّ رمزيّتها وصباها، تلك التي شكّلت بين تقاسيمِها أغاريدَ شرودي الملّونة وروح تمرّدي الأوّل، وخصوصاً أنّني ترعرعت في بيئة معاندةٍ كانت جاهزةً ومتفاعلةً ومُنفعلة باستشراف الجديد واستقبالِ الحداثةِ والتّطلّعِ للتغيير”.
صدرت معظم دواوين بلند في بيروت، مثلما صدر معظم كُتبي فيها، وقد كانت بيروت في السابق والحاضر، وعلى الرّغم ممّا أصابها، ملاذاً دافئاً يُخفّف من مَشاعر الغربة، إنْ لم يتجاوزها، لدرجة شعور المرء أنّه في بلده، والأمر ينطبق على العديد من المُبدعين الذين عاشوا في بيروت بينهم … محمود درويش ونزار قبّاني وأدونيس ومعين بسيسو وسعدي يوسف وأنيس الصايغ وعزّ الدّين المناصرة، ووجدوا في بيروت الرئة التي يتنفّسون بها هواء الحريّة والإبداع والحداثة.
أمّا النصف الآخر من غربة بلند، فقد كان قاسياً على نفسه فيها، وهو مرحلة لندن، وهي ذاتها التي عشتها، ولكن قبل بيروت. وإذا كان في بيروت قد انغمس بالحركة الثقافيّة، وعمل في مدرسة برمّانا مديراً ورئيساً لتحرير مجلّة “العلوم”، وكان حضوره مبرّزاً في مجالسها الأدبيّة وأنشطتها الثقافيّة والفكريّة وحلقاتها النقاشيّة وأماسيها الشعريّة، فإنّه في لندن، ولاسيّما في السنوات الأولى عانى الكثير، خصوصاً مع تعمّق مأساة العراق، وظلّ حلم العودة يراوده:
” هل لي أن أحلم يا مدينتي بالرجوع لدارنا المطفأة الشموع؟
هل لي أن أعود فأوقظ المصباح وأفتح الشبّاك للنجوم والغيوم والريح؟
هل لي أن أحلم بالرجوع لكلّ ما في قلبك المقروح من دموع ؟
في مطلع التسعينيّات من القرن الفائت حضرنا مؤتمراً للمثقّفين انعقد في برلين وكان يحمل كاميرته التي لا تفارقه؛ وخلال تلك الفعاليّة الثقافيّة أدرجنا في برنامجنا القيام بثلاث زيارات مهمّة: الزيارة الأولى إلى متحف برلين “بيرغامون” مدفوعين لمشاهدة الآثار العراقيّة بشكلٍ خاصّ. ولعلّ أكثر ما أثارنا هو مُشاهدتنا “بوّابة عشتار” و”طريق المَوكب”، فضلاً عن الرسومات والكِتابات المسماريّة فوق ألواح الطين التي تعود إلى أكثر من 6000 سنة.
وكم كان حزننا كبيراً لأنّ هذه الآثار ليست في متاحفنا، إلّا أنّ ثمة نوعاً من “الرضا” المكبوت كان داخل كل منّا، لأنّ هذه الآثار محفوظة في أماكن آمنة، ويُمكن استردادها في ظروف أخرى، ولو كنّا نعلم أنّ تنظيم “داعش” الإرهابي سيدمّر النمرود العظيم ومدينة الحضر التاريخيّة الأثريّة والمنارة الحدباء وجامع النبي شيت والنبي يونس، وسيحطّم ثورَين مجنَّحين عند بوّابة نرغال التاريخيّة في الموصل وغيرها من الآثار التي لا تقدّر بثمن، لكنّا قد تشبّثنا لتبقى آثارنا محفوظة بعيدة عن أيادي الإرهابيّين الآثمة التي دقّتها بالمعاول.
أمّا الزيارة الثانية، فكانت لقبر برتولت بريخت الشاعر والكاتِب والمسرحي الألماني، الذي يُعتبر من أهمّ كتّاب المسرح في القرن العشرين وصاحب نظريّة “هدم الجدار الرابع”، والمقصود “إشراك المُشاهِد في العمل المسرحي” .
والزيارة الثالثة كانت في رحاب روزا لكسمبورغ أو “روزا الحمراء” التي عارضت فكرة لينين حول كون الحزب الشيوعي “أداة البروليتاريا” لتحقيق دكتاتوريّتها، واعتبرت مثل تلك “الفكرة خاطئة وغير ديمقراطيّة”، كما زرتُ وصديقي الروائي أبو كَاطع (شمران الياسري) المكان ذاته في العام 1976.
انشغل بلند بالعلاقة المُلتبسة بين المثقّف والسياسي، واستعدنا علاقة ستالين بالمثقّفين في الثلاثينيّات والهَيمنة الجدانوفيّة المريرة، التي كانت تدعو إلى تسخير كلّ الإمكانات الفنيّة والإبداعيّة لمُواجهة الثقافة “البرجوازيّة”، وهو الموقف الذي انتقلت عدواه إلى الصين، حيث تعرّض المثقّفون إلى حملة تنكيل خلال الثورة الثقافيّة الصينيّة 1965-1976 حتّى وفاة ماوتسي تونغ. ولم يكُن ذلك بعيداً عن مقارنة أجريناها مع المكارثيّة في الولايات المتّحدة التي لاحقت المثقّفين وقسّمتهم تبعاً لمواقفهم الفكريّة والسياسيّة. وأتينا على سلطاتنا التي استهدفت المثقّفين وعملت على تدجينهم أو كَتم أصواتهم، كي لا يتحوّلوا إلى نقطة جذب ومُغايَرة.
في اللّقاء الأخير معه
سبقني بلند إلى رئاسة المنظّمة العربية لحقوق الإنسان، وحين انتخبتُ رئيساً لها، اخترته عضواً في المجلس الاستشاري الذي ضمّ 15 عضواً من خيرة المثقّفين العرب. وحين اختفى قسريّاً منصور الكيخيا، ممثّل ليبيا الأسبق في الأُمم المتّحدة في العام 1993، شكّلنا لجنة من المثقّفين العرب لإجلاء مصيره، كان على رأسها بلند الحيدري. وقد عملنا لفترة قصيرة مع محمّد مكيّة، المعماري المعروف وصاحب ديوان الكوفة، كلجنة ثقافيّة للديوان.
وكنتُ قد طلبتُ من بلند كتابة مقدّمة لكتابي عن الجواهري “جدل الشعر والحياة”، فابتهج وقال: “إنّك ستمنحني الفرصة للكتابة عن الجواهري”، وهو ما اتّفقنا عليه، لكنّ يد القدر كانت أقرب إليه.
بدا بلند في آخر لقاء لي معه مرهقاً وحزيناً، ولم أشأ أن أتطفّل عليه لسؤاله عن سبب إرهاقه وحزنه، لكنّه بادر للقول إنّه سيجري قسطرة للقلب بناءً على نصيحة الطبيب بعد أيّام، ولكنّه دخل المستشفى ولم يخرج منها.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)