بنجامين مدلي: عودة إلى الإبادة الأميركية الجماعية
بنجامِين مدلي: إبادة جماعية أميركية، الولايات المتحدة الأميركية ونكبة هنادرة كاليفورنيا (1846-1873).
Benjamin Madley, An American Genocide: the united states and the california indian catastroph. yale university press, new haven 2016. 692 pp.
ليس سهلاً على المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية قبول حقيقة تاريخ البلاد القائم على الإبادة الجماعية لنحو مئة مليون هندري (هندي أحمر)، كما بيّن لنا العالم السوري الكبير منير العكش في مؤلفات عدّة صدرت له باللغة العربية عن التاريخ الدموي للاستعمار الأوروبي لأميركا الشمالية التي سبق لنا الحديث عن أحدثها في صفحات «الأخبار».
هذه المرة يأتي الاعتراف بالإبادة الجماعية على شكل مؤلف صادر عن إحدى أعرق المؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة وهي «جامعة يل»، التي عرفنا من عروض سابقة دورها غير المشرّف في تجارة «العبيد» الذي شكل مصدر الثروة الكبيرة التي تتمتع بها.
من هنا، تكمن أهمية هذا المؤلف الذي يشكك في جوانب من التاريخ الرسمي لعلاقة الولايات المتحدة والمستعمرين الأوروبيين بأهل البلاد، لكن في منطقة محدودة للغاية تقع في ولاية كاليفورنيا. لكن هذا لا يعني أن كل مؤلف يصدر عن دار نشر تلك الجامعة مهم لأنها ـــ وكما هو متوقع ــــ تنشر أعمال كتاب صهاينة من محرفي التاريخ.
من المعروف أن ولاية كاليفورنيا شهدت ما يعرف بفورة الذهب (Gold Rush) في القرن التاسع عشر، ما قاد إلى هجمة استعمارية-استيطانية غير مسبوقة، على المنطقة، وبالتالي على أراضي القبائل الهندرية بهدف مصادرتها وإبعاد أهلها وأصحابها الأصليين، أو الأفضل، إبادتهم، وهو ما حصل وفق هذا المؤلف. من الأمور التي قد تبدو عجيبة للبعض أن واشنطن لا تتأخر لحظة في نعت بعض الأعمال التي تقوم بها بعض الأنظمة غير الدائرة في فلكها بأنها إبادة جماعية، لكن الأعجب من ذلك أنها ترفض الاعتراف بتاريخها في هذا المجال وأنها بالتالي غير مؤهلة أخلاقياً على الأقل، للحديث في هذا الجانب من المآسي التي تعيشها العديد من بلاد العالم. الكاتب بنجامين مدلي أستاذ تاريخ مساعد في جامعة كاليفورنيا، ما يؤهله أكاديمياً للكتابة والحديث في موضوع الإبادة الجماعية في ولايتـ(ـه).
إضافة إلى عامل الناشر الذي يمنح المؤلف أهمية تاريخية، هناك الوثائق الكثيرة التي ضمها الكاتب إلى المؤلف، وقد شكلت مع هوامشه حوالى نصف صفحاته. ثمة نحو مئتي صفحة مخصصة لتوثيق جرائم القتل يوماً بيوم، وتضم إضافة إلى التاريخ، الجهة التي مارست القتل والمنطقة التي قتلوا فيها وعدد الضحايا من الهنادرة، إن توافرت معلومات عن ذلك، ومصدر المعلومة عن الجريمة بين عامي 1846 و1873.
باختصار الجريمة بأرقام، عدد الهنادرة في ولاية كاليفورنيا عام 1846 كان نحو 150000 من البشر. أما عددهم في عام 1873 فلم يتجاوز الثلاثين ألفاً.
كما يعمل الكاتب على تفكيك الأساطير المحيطة ببعض الأفراد الذين تعدهم الكتب المدرسية الرسمية من الشخصيات التاريخية ومنهم على سبيل المثال السويسري يوهان ستّر الذي أطلق هستيرية فورة الذهب، ويوضح أنه كان من قادة نصيري إبادة الهنادرة.
أما الأب خونيبرو سرّا، الذي طوبه البابا فرنسيس في مثل هذه الأيام من العام الماضي، فكان ــ وفق المؤلف ــ شخصاً سادياً يجلد ويعذب الهنادرة الذين كانوا يتراخون في العمل أو يحاولون الفرار من الوظائف المفروضة عليه. خصص الكاتب القسم الأكبر من المقدمة للحديث في تعريف المقصود بالإبادة الجماعية وفق المعايير الدولية، ما قد يضع إشارتي استفهام وتعجب على هدف عمله. يضاف إلى ذلك عجب القارئ من إشارة العنوان إلى «نكبة الهنود»، وهو مصطلح محايد لا نقبل به، حتى في الإشارة إلى ما حل بفلسطين وأهلها عامي 1948 و1967.
مع أن المؤلف موجه للقراء وأهل الاختصاص في الولايات المتحدة وإلى المؤسسة الحاكمة في واشنطن، إلا أنه مهم لنا لأنه يفضح تاريخ تلك الدولة وكيفية نشوئها. ونحن نعلم من التجارب التاريخية، ومنها ما حصل إبان الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، وما يحصل في ليبيا الآن، أنّ ما بني بالدم لا يمكن إلا أن ينتهي بالدم.
يدحض المؤلف أسطورة «الاستثناء الأميركي» ويوضح على نحو جلي وموثق وفق أشد المعايير العلمية صرامة، أنّ حقيقة التاريخ تفضح الخلفية الدموية لما جرى في كاليفورنيا من إبادة جماعية. يشير الكاتب أيضاً إلى عدم صحة الادعاء «الرسمي» بأن قتل الهنادرة تم على أيدي مجموعات وأفراد خارجين على القانون، ويوضح بالوثائق أن تلك الجرائم كانت السياسة الرسمية للولاية والقتل الجماعي والتهجير كان يتم وفق مراسيم وأوامر صريحة من القائمين على إدارة الولاية.
صحيفة الأخبار اللبنانية