بوادر تهدئة إقليمية وتسوية سورية

الاقتراب من نهاية شيء أو مرحلة وبدء شيء آخر أو مرحلة أخرى غالباً ما يسبقهما شعور بحاجة الى الترقب.

خلال الأيام الماضية، أيام الانتقال من عام إلى عام آخر، عشنا من جديد الشعور بهذه الحاجة، تماما كما عشنا مثيلاتها في الأيام نفسها من سنوات سابقة. عشنا نتوقع التغيير، وبمعنى أدق عاش بعضنا المتفائل عادة ينتظر التغيير، وعاش البعض الآخر المتشائم غالبا، يتوقعه. كثير من الناس قضوا الأيام القليلة الماضية في انتظار عام جديد بأمل أن يختلف جذريا عن العام المنقضي. عام جديد مفعم بالسلام والهدوء والاستقرار وحامل لآمال الرخاء والحرية. آخرون وهم أيضا كثيرون، قضوا الأيام الماضية متوقعين عاما لا يختلف في أشياء كثيرة عن العام السائر نحو الانقضاء إلا ربما في درجة التدهور الذي ألفوه وسرعته.

صحيح أنه لم يحدث تطور محوري ينبئ بكل الثقة عن طبيعة العام القادم ودرجة التغيير ووجهاته، ولكن ظهرت بوادر كادت تأخذ شكل المؤشرات على أن العالم في مجمله، والشرق الأوسط تحديدا، قد تمكن منه الخوف وصار يطلب بعض الهدوء، هدوء قابل لأن يتطور فيصبح سلاما طويلا أو هدنة يسكن فيها المتنازعون والمتقاتلون قليلا ويتدبرون خلالها أمر مستقبلهم، قبل ان يتخذوا قرار استئناف ما كانوا يفعلون أو العدول نهائيا عنه.

جمعتني وأصدقاء من مصر وجوارها العربي جلسة نقاش خصصناها لحصر أهم تطورات المرحلة الماضية ومحاولة الربط بينها واستخلاص مؤشرات من تلازمها أو تلاحقها. بدأنا بنبأ مفاجئ عن زيارة يقوم بها مودي رئيس وزراء الهند إلى لاهور، حيث المقر الخاص لنواز شريف رئيس وزراء باكستان، خصمان لدودان يقودان أحد أقدم النزاعات الدولية ويتبادلان رسائل العنف والتدمير ويفخران بتشددهما الديني والعرقي ويجهران بالكراهية المتبادلة. فجأة رأينا أحدهما يقفز فوق كل حدود الكره والتوتر ليلتقي الآخر.

هنا في مصر، رصدنا تصاعد القلق الشعبي على مصير النهر شريان حياتهم مع كل زيادة في ارتفاع السد الذي تشيده اثيوبيا لحجز مياه فيضاناتها عن الوصول إلى مجرى النهر الرئيسي في السودان ومصر. الزيادة في الارتفاع مستمرة، والزيادة في القلق الشعبي متصاعدة، لا جديد فيهما. الجديد هو في سياسة التهدئة التي تنتهجها وتروج لها حكومتا مصر واثيوبيا. هناك نية مؤكدة لدى السلطتين الحاكمتين بالتهدئة والترويج لحلول تفاوضية وعدم توسيع رقعة النزاع، سواء بقي النزاع في سياقه الثنائي والثلاثي أو امتد إلى سياق أفريقي.

لفت نظرنا أيضا ان اطراف الصراع في اليمن مالت مؤخرا في اتجاه التفاوض وتغليبه على اتجاهات تصعيد الحرب. لم نتوقف كثيرا في النقاش عند دور الوسيط الدولي والضغوط الخارجية ومستويات نصر أو هزيمة هذا الفريق أو ذاك، إنما تركز اهتمامنا على حقيقة ان أكثر من طرف في الحرب صار يميل نحو حدة أقل ودرجة أعلى من التفاوض المباشر. لم يكن خافيا علينا أننا كمجموعة نقاش وتحليل، تأثرنا في نقاشنا حول حرب اليمن بمعلومات تدفقت نحونا عن قرار إيراني بالتهدئة صادر من أعلى مستوى، يشمل أنشطة إيران الدولية والإقليمية كافة. نعرف بالتأكيد أن هذه السياسة يجري تطبيقها في العراق بذكاء وحنكة، وفى إطار تعاوني مع أنشطة أميركية جارية هناك. نعرف أيضا، أو نشعر، أن هذه التهدئة امتدت إلى لبنان، حيث كان يمكن أن تؤدي بعض خطوات إسرائيل الاستباقية في سوريا أو غيرها إلى ردود فعل غاضبة من «حزب الله». على العكس جاءت الردود هادئة وفاجأت عديد الناس في لبنان وخارجه، وبدورها دفعت أطرافا أخرى في لبنان إلى الاستمرار في سلوك طريق التهدئة في تفاعلاتها الداخلية.

فجأة، ومن دون مقدمات، أقدمت تركيا على مغامرة عسكرية في العراق بغزو جزء من أراضيه في الشمال. كان عملا خارج السياق وبقي مجهول الدوافع لفترة طويلة. باستثناء هذا الإجراء أقدمت تركيا على ما فسرته تحليلات خارجية بأنه يعكس سياسة تهدئة عامة في عدد من قطاعات العمل الإقليمي والدولي لتركيا. كان التقارب مع إسرائيل دليلا قويا على ان التهدئة قرار استراتيجي لحكومة أنقرة وليس قرارا تكتيكيا. بدا لنا أيضا أنه سيكون من الصعب، على المستوى التحليلي على الأقل، فصل التطورات الأخيرة في العلاقات التركية مع ألمانيا بخاصة والاتحاد الأوروبي عامة وتعقيدات مسألة الهجرة السورية إلى أوروبا، عن سياسات التهدئة التي بدأت تمارسها تركيا في المنطقة. بل إننا حين راجعنا بعض الأنباء عن غموض يكتنف موقف حكومة أردوغان من جماعة «الإخوان المسلمين»، وجدنا ملامح تغيير ليس فقط في أساليب التعاون، ولكن أيضا في سياسات الدعم اللامحدود. لاحظ كذلك أقران لنا اختلافا في لغة الديبلوماسية التركية، وبدرجة أقل في لغة الإعلام الرسمي التركي، في التعامل مع حكومة القاهرة. هنا تبدو مهمةً تصريحاتٌ سعودية صدرت في الآونة الأخيرة تلمح إلى تقارب قريب بين القاهرة من ناحية وكل من أنقرة والدوحة من ناحية أخرى. العامل المشترك في هذا النزاع، هو «الإخوان المسلمون» وموقف العاصمتين من توظيف التيارات الاسلامية المتشددة ولا شيء آخر.

لم يغب عن بال مجلسنا للنقاش هذا الصخب الدائر حول تغييرات هيكلية وايديولوجية محتملة في جماعة «الإخوان المسلمين» المصرية و «حزب النهضة» التونسي، نتيجة ما قيل عن جهود وتدخلات «إصلاحية» قوية قد تؤدي في النهاية إلى «أجواء تهدئة» تشمل توجهات «الإخوان المسلمين» كافة، سواء في تنظيمهم الدولي أم في تنظيماتهم الإقليمية. سمعنا كثيرين يرددون الرغبة في حث «الإخوان المسلمين» على سلوك مسالك التهدئة. سمعناها في دوائر السلطة الأميركية ومن أفراد قريبين من وكالات استخباراتية ومراكز بحثية، وسمعناها تتردد في أجهزة إعلامية وسياسية في باريس ولندن وواشنطن وعواصم خليجية. الآن صارت دعاوى التهدئة الإخوانية وإعادة ترتيب بيوت «الإخوان» من الداخل سرا معلنا ومتداولا.

ليس خافيًا الأملُ العائدُ إلى نفوس عدد من القادة والزعماء الليبيين. هؤلاء يشعرون وربما للمرة الأولى منذ أربع سنوات أو أكثر بأن طاقة أمل طال انتظارها قد انفتحت، وان جهدا دوليا هادئا يسعى للتقريب بين مختلف فصائل الأزمة الليبية. الهدف معلن وصريح وهو وقف التدهور المتسارع الذي يصب في مصلحة قوى إرهابية تستعد لتجتمع في ليبيا. صار من المؤكد ان تركيا وحدها لن تتمكن من وقف هجرة الملايين القادمة من سوريا وما وراءها. المؤكد أيضا أن الفوضى في ليبيا، إن استمرت، لن تفلت من شرها دولة أوروبية واحدة، فضلا عن مصر أو تونس أو افريقيا جنوب الصحراء.

التهدئة جارية ومسيرتها انطلقت بحسب الشواهد غير القليلة التي جرى رصدها ولا يتسع المجال هنا لذكرها. كان كافيا لتأكيد تحليلاتنا الاستقبال البارد من جانب دول إسلامية لها مكانتها لمبادرة إقامة «حلف إسلامي» استبعد خطأ عضوية إيران، الدولة الإقليمية الصاعدة نفوذا دوليا وإقليميا، الأمر الذي استدعى حملة الردود السلبية، فكانت بمثابة رسالة مهمة توحي بأن غالبية الدول الإسلامية، كغيرها من دول آسيا وأفريقيا، تعبت وانهكت قواها خلال مرحلة تخيلها الكثيرون ضرورية من الناحية الجيواستراتيجية لبناء توازن قوى عالمي وتوازنات إقليمية جديدة، فإذا بهذه الجهود تنتهي سباقات طوائف ومذاهب وتهدد الشرق الأوسط بأسره، بالهلاك والخراب.

في اعتقادنا أن الرسالة الجديدة الداعية إلى تهدئة تمهد لتسوية سياسية في سوريا تقع اقتناعا أو تحت القسر. لا أمل من دون التسوية السياسية في سوريا في استقرار دولي أو إقليمي. وفى ظننا ان مسيرة التهدئة انطلقت فعلا وحققت انجازات برغم المقاومة العنيفة من جانب القوى ذات المصلحة في ابقاء واذكاء نيران التشدد الديني. وفي ظننا أيضا أن تفاهمات روسية – أميركية أثبتت في هذا المجال كفاءة أكبر من تفاهمات سابقة أميركية – أوروبية أو أميركية – عربية.

نأمل أن تكون مصر تجاوزت مرحلة الاستغراق في عالم المؤامرات الدولية وخرجت إلى عالم الحقيقة حيث تبذل الجهود لإنقاذ العالم من كارثة يتسبب فيها الشرق الأوسط.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى