بوتين لن يكرّر خطأ ستالين
فوجئ عدد من المتابعين بالسرعة التي تدحرجت فيها الأمور، والتي أدّت إلى حرب روسية في أوكرانيا، كان من المنتظر أن يقوم الأوروبيون بمساعٍ تجنّب أوروبا الحرب، في وقت تتصاعد التهديدات الأميركية، والتي كان يبدو أنها تريد دفع الأمور إلى التصعيد من أجل فرض عقوبات على روسيا.
كان واضحاً من مسار الأمور، أن بوتين كان ينتظر من الغرب وأوروبا أن تضغطا على أوكرانيا لتطبيق اتفاقيات مينسك، والوصول إلى تسوية تقضي، في الحدّ الأدنى، بالاعتراف بحياد أوكرانيا، على الرغم من أن الروس عادةً يفضّلون أن تكون الدول المحيطة بروسيا (أو ما يسمى الدول الحاجز)، دولاً تدور في فلكهم، لأنها تشكّل الخاصرة الرخوة، والتي يمكن اختراق روسيا منها.
لقد عانى الروس دائماً قلقَ الجغرافيا. وما إشارة بوتين إلى أن معاهدة “برست ليتوفسك” تُعَدّ “خيانة شيوعية”، إلا تأكيدٌ أن التاريخ الروسي ما زال حاضراً بقوة في أذهان الاستراتيجيين الروس لغاية الآن.
قام الحكم الشيوعي، الذي سيطر على الحُكم في روسيا بعد الثورة البلشفية، بالتوقيع على معاهدة “برست ليتوفسك” في الـ3 من آذار/مارس 1918. بموجب شروط المعاهدة، اعترفت روسيا البلشفية باستقلال أوكرانيا وجورجيا وفنلندا، وتنازلت عن بولندا ودول البلطيق، من ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، إلى ألمانيا والنمسا والمجر، وتنازلت عن كارس وأردهان وباطوم لتركيا. وشكّل إجمالي الخسائر نحو مليون ميل مربع من الأراضي الروسية السابقة، وما يعادل ثلث سكان روسيا السابقة، أو نحو 55 مليون نسمة. وخسرت روسيا أغلبية مخازن الفحم والنفط والحديد، وكثيراً من صناعاتها. ودفع الروس ثمناً عسكرياً باهظاً فيما بعدُ بسبب التخلي عن تلك الأراضي، ووصف لينين بمرارة هذه الاتفاقية بأنها “هاوية الهزيمة والتقطيع والاستعباد والإذلال”.
وفي الحرب العالمية الثانية، شكّلت الدول نفسها، وخصوصاً أوكرانيا، الخاصرةَ الرخوة التي استطاع هتلر من خلالها الوصول إلى أراضي الاتحاد السوفياتي. شنّ هتلر حملة عسكرية على الاتحاد السوفياتي، أطلق عليها اسم “بارباروسا”، نسبةً إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الأول بربروسا، بحيث تقول الأسطورة إن بربروسا سيستيقظ من سباته وينقذ ألمانيا حين تحتاج إليه.
بدأت العملية في الـ22 من حزيران/يونيو 1941، وشنّ هتلر هجوماً على الأراضي السوفياتية من عدة محاور. وعلى محور بولندا – أوكرانيا، انقسم الأوكرانيون بين مؤيد للجيش الأحمر وآخرين (القوميين) ساعدوا هتلر في حملته العسكرية من أجل الوصول إلى الأرضي الروسية.
انخرط الأوكرانيون بفعّالية في حملة الألمان، فشاركوا في الإدارة المحلية، وفي الشرطة الخاضعة للإشراف الألماني، والتي تهدف إلى اعتقال الأوكرانيين الموالين للسوفيات وتعذيبهم وقتلهم، كما عملوا حراساً للمعتقلات الألمانية. وتذكر المصادر التاريخية أنه، عشية عملية بارباروسا، سعى ما يصل إلى 4000 أوكراني، من الذين يعملون تحت أوامر ألمانية، للوصول إلى خلف الخطوط السوفياتية من أجل التخريب والقيام بعمليات حرب عصابات.
تكبّد الروس عشرات ملايين القتلى في حربهم ضد هتلر، الذي غرق – في النهاية – في المستنقع الروسي، الأمر الذي تسبّب بهزيمته في الحرب العالمية الثانية. ولعلّ الثمن الباهظ، والذي دفعه الروس ثمناً لتراخي ستالين وإهماله الخطر المتأتي من الغرب وتأخره في التحرك السريع لردعه، هو ما سبّب هذه الكوارث في روسيا.
اليومَ، يشير عدد من الوثائق إلى أن النازيين الجدد هم الذين استولوا على السلطة في أوكرانيا بعد ثورة عام 2014 المدعومة من الغرب. وهناك كثير من التقارير الغربية، التي تتحدث عن قيام هؤلاء بحمل السلاح وقتل المواطنين الأوكران القاطنين في المناطق الشرقية، والذين يتحدّرون من القومية الروسية. بناءً عليه، وبما أن التاريخ الروسي ما زال ماثلاً للعيان في الذاكرة الجماعية الروسية، لا يمكن لروسيا أن تتغاضى عن الخطر القادم من الغرب، والذي يتخذ من أوكرانيا منصة لتقويض الأمن الروسي.
بناءً عليه، وبعكس ما يتم تسويقه في الغرب بشأن شخصية بوتين، على أنه مجرد متهوّر ومتعطّش إلى الدماء، يعمد بوتين إلى اختيار العقلانية والبراغماتية في تعاملاته الدولية. لقد اعتاد بوتين القيام بخطوات عسكرية محدودة وفعّالة في الوقت نفسه، كما فعل في كل من سوريا وجورجيا. وحتى في دول الاتحاد السوفياتي السابق، تعامل الروس بضبط أعصاب تجاه نشر الثورات الملوَّنة في محيطهم الجغرافي، والتي قامت بها الولايات المتحدة من أجل تغيير الأنظمة الموالية لروسيا، والإتيان بحكّام موالين كلياً للغرب، مع ما استتبع ذلك من إلغاء الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية وسواها.
لكن، يبدو أن الروس أيقنوا أن الاستراتيجية السابقة المتَّبعة لن تنفع هذه المرة. لقد أتى الرد الغربي، وخصوصاً الأميركي، مفرطاً، تجاه قرار روسيا الاعتراف باستقلال الجمهوريتين، فاندفع الغرب بسرعة إلى فرض عقوبات على خط الغاز “نورد ستريم 2″، الذي كان يُعَدّ قيمةً لروسيا، استراتيجياً واقتصادياً. وأظهر هذا الردّ أن الغرب يريد كسر روسيا، وليس الوصول إلى تسوية معها، وكما قال بوتين في خطاب الاعتراف بالجمهوريات، فإن “العقوبات ستُفرَض علينا مهما فعلنا، فقط لأننا موجودون، ونحاول أن نحافط على سيادتنا وقيمنا”.
لقد بدا أن الإدارة الأميركية، وبايدن تحديداً، في عجلة من أجل فرض العقوبات على “نورد ستريم 2” حتى قبل بدء التصعيد العسكري الروسي، فما إن أنهى بوتين خطاب الاعتراف باستقلال الجمهوريات حتى توالت العقوبات، التي استمرت في التصاعد من دون انتظار التصعيد العسكري الروسي، ومن دون ردّ فعل روسي، إلى أن أعلن بايدن ما كان ترامب يسعى إليه: إيقاف العمل بـ”نورد ستريم 2″، عبر فرض العقوبات على الشركة الروسية الأُم التي تمتلكه.
وهكذا، لم يعد هناك أمام بوتين شيء يخسره، فلم يترك له الأميركيون أي خيار سوى الذهاب في معادلة عسكرية من أجل تأمين حياد أوكرانيا، ونزع السلاح منها، وتحييد الأخطار التي أعلنها في خطاب الاعتراف باستقلال الجمهوريات. باتت سمعة روسيا وأمنها على المحك، وأي تراجع سيُعَدّ بمثابة هزيمة ستكلّف الروس غالياً، كما حدث في الحرب العالمية الثانية. لقد أعلنها بوتين، صراحة: لن يقبل أن يكرّر مع الناتو خطأ ستالين مع هتلر.
الميادين نت