بوتين يوقظ الحنين إلى دور الدولة العظمى

تأليف: والتر لاكير
الناشر: مؤسسة توماس دون، نيويورك، 2015
عدد الصفحات: 288 صفحة

يتعامل مؤلف هذا الكتاب مع نظام الحكم الراهن في الاتحاد الروسي، لا على أنه يرتبط برئيس فرد هو رجل الكرملين القوي فلاديمير بوتين، ولكن على أساس أن الذي يمسك بمقاليد روسيا في المرحلة الراهنة إنما يتمثل في مسار متبلور ومنهج متكامل يضفي عليه المؤلف صفة البوتينية. وتنطلق طروح الكتاب من مرحلة ميخائيل غورباتشوف التي آذنت بنهاية الحقبة السوفييتية منذ ثمانينيات القرن الماضي ثم تبلورت في مصطلح البيروسترويكا الشهير بمعنى «إعادة البناء»، فيما أسلمت الحقبة المذكورة، مع مطالع عقد التسعينات إلى حقبة يلتسين التي شهدت استباحة ما سبق للشعوب الروسية – السوفييتية أن بذلته من جهود وما أنفقته من أموال.

ثم تمضي فصول الكتاب إلى عرض ما يصفه المؤلف بالهاجس الجيوسياسي، بمعنى أن روسيا طالما استبدت بها فكرة ثابتة وشديدة الالحاح تتمثل في التأكيد على شخصيتها الأوراسية التي تنصرف إلى كون روسيا بلدا ينتمي إلى أوروبا من جهة، ولكنه ينتمي إلى آسيا من الجهة الأخرى. وهنا يذهب الكتاب إلى أن روسيا لا بد من اعتبارها بالدرجة الأولى بلدا أوروبيا بحكم الثقافة واللغة والتاريخ واهتمامات الشأن العام. ثم تحرص بحوث الكتاب على أبعاد شخصية بوتين ونهجه في إدارة شؤون الحكم عن شبهة الديكتاتورية، وإن كان الكتاب يركز على طابع المركزية الذي يغلب على البوتينية.

يسمونها أحيانا بالحرب الرابعة، وأحيانا يصورونها امتدادا للحرب الباردة التي دارت رحاها بين عامي 1945 – نهاية الحرب الكونية الثانية وعام 1989، الذي حلّ أيامها إيذانا بغروب الحقبة السوفييتية، ومن ثم بانتهاء الصراع السياسي – الأيديولوجي لصالح القطب الأميركي مع مطلع التسعينات من القرن العشرين. لكن الملابسات القريبة والتطورات الراهنة في الفترة الحالية لا تلبث أن تؤكد أن الحرب، فيما يبدو، ما برحت تشكل الخبز اليومي للعلاقات المتفاعلة بين الدول الكبرى المهيمنة بشكل أو بآخر على مقاليد هذا العالم.

صحيح ان العقد التسعيني شهد التراجع إلى حد الانحسار، وربما الاستضعاف، على جبهة القطب الروسي – ما بعد السوفييتي، وخاصة خلال ملابسات زعامة بوريس يلتسين في الكرملين الروسي. لكن الأصح ان حلّت مطالع هذه الألفية الثالثة لتشهد وثوب زعامة روسية جديدة إلى سدة الحكم في موسكو، وتمثلت بالطبع في شخصية فلاديمير بوتين، كادر الاستخبارات الروسية الذي مازالت تلاحقه التحليلات والتوقعات والمراهنات والاهتمامات الإيجابية والسلبية، خاصة في ضوء القرارات المصيرية التي اتخذها وما برح يتخذها: ما بين ضم روسيا شبه جزيرة القرم، إلى تأجج الصراع بين روسيا وأوكرانيا، إلى مواجهة ما قامت به الدول الغربية من فرض قائمة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، إلى مشاركة العسكرية الروسية في الصراع الدائر حاليا على أرض سورية العربية.

ترمومتر الحرب الباردة

في ضوء هذا كله، يرى مراقبو الشؤون الدولية، وفي صميمها الشأن الأوروبي – الغربي بالذات، ان الحقبة الراهنة إنما تشهد ارتفاعا في ترمومتر التوتر بين قطبي الحرب الباردة سابقا: أميركا وروسيا على وجه الخصوص. وفي طليعة هؤلاء المراقبين والمحللين يأتي مؤلف الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور: الكاتب المخضرم (95 سنة) والتر لاكير الذي لا يزال برغم هذه السن المتقدمة، يعد في طليعة دارسي قضايا الشرق الأوسط بشكل خاص، والشؤون السياسية الدولية بشكل عام.

يحمل كتابنا العنوان الرئيسي التالي: البوتينيــــة، ويتلوه كالعادة عنوان فرعي – توضيحي في العبارة التالية: روسيا ومستقبلها مع الغرب.

وربما يلفت انظارنا كقارئين، ومن اللمحة الأولى، كيف أن غلاف هذا الكتاب يحمل صورة للرئيس الروسي بوتين، وقد وضع على عينيه نظارة سوداء، وكأنما يعمد الناشر إلى تذكير القارئ بان البطل المحوري للكتاب هو شخصية استخباراتية بالدرجة الأولى.

وبحكم رصانة المؤلف كمفكر ومحلل سياسي واسع الخبرة، فهو يبدأ مع سيرة وأعمال بوتين، أو فلنقل يبدأ مسار البوتينية كما يراها، لا من مرحلة السَلَف يلتسين الذي حكم روسيا وسط اطلال التجربة السوفييتية، ولكن البداية استهلت نظرتها مع حقبة سلف – السلف كما قد نقول، وهي حقبة ميخائيل غورباتشوف. من هنا يبدأ الفصل الأول بعنوان صار متداولا في جنبات وأجروميات الشأن العالمي وهو: «البيريسترويكا»، ومعناها بالطبع: إعادة البناء (وتبدأ بهدم الكيان الشيوعي – السوفييتي والبحث عن كيان جديد).

بعدها تتوزع مضامين هذا الكتاب إلى 9 أبواب يحوي كل منها ما متوسطه 5- 6 من الفصول موزعة بدورها حسب اهتمامات المؤلف، فيـــما يسترعي اهتمام القارئ بعض الحقائق المحــورية خلال استعراض مواضيع الكتاب، ومنها على سبيل المثال: الباب الثاني يقتصر على فصلين ليس إلا، ومنهما فصل يركز الحديث على الأوليغاركيات الروسية، ويقصد به المؤلف تلك تجمعات الاقلية المصلحية أو التشكيلات شبه العصابية التي ضمت ما يمكن وصفه بانه جمعيات المنتفعين بسقوط الاتحاد السوفييتي، وقد شكلت في جوهرها احـــتكارات استغلالية لم تتورع عن شراء المــــصانع ومواقع الإنتاج العملاقة سابقا بأبخس الأسعار ثم تحولت بها إلى خدمة مصالحها الطبقية وكان ذلك على حساب جماهير الشعب الروسي بطبيعة الحال وعلى مدار سنوات التسعينات.

ركائز السلطة الثلاث

يسترعي النظر أيضا ان كلا من الباب الرابع والباب الخامس لم يضم سوى فصل واحد لا غير: في الباب الرابع كان العنوان الوحيد هو البوتينية، وفي الباب الخامس كان الفصل الوحيد بدوره هو: سقوط امبراطورية. من ناحية أخرى، نكاد نلاحظ قدرا لا يخفى على القارئ المتعمق من الإنصاف الذي يتعامل به مؤلف الكتاب مع شخصية وأساليب الرئيس الروسي بوتين حيث يرى ان منهجه في إدارة شؤون الحكم يستند إلى ركائز ثلاث هي:

• أولا: استعادة الإيمان بالكنيسة الارثوذكسية الروسية.
• ثانيا: معاودة التأكيد على المنطلق الأوراسي بمعنى انتماء روسيا المزدوج إلى كل من قارة أوروبا وقارة آسيا بحكم الموقع الجغرافي والمصلحة الاقتصادية والدور السياسي في آن معا.
• ثالثا: سيادة مشاعر التوجس إزاء ما قد تمارسه العناصر الخارجية المعادية من تأثير على جموع الشعب الروسي.

وفي ضوء هذا الموقف الذي لا يشكل توافقا أو تفاهما على نحو كامل مع مواقف الغرب أوروبيا كان أو أميركيا، يرى المؤلف أن الغرب مطالب بانتهاج سبيل أعمق ازاء التعامل مع ظاهرة البوتينية على نحو ما تتجسد به في السلوك السياسي لفلاديمير بوتين، ولاسيما من حيث تعاملاته وتفاعلاته مع محاور القطب الغربي من عالمنا.

وربما يُحسب للمؤلف انه بادر إلى استبعاد نهج التعامل – التقليدي المألوف والمكرر أيضا مع الرئيس الروسي بوتين على أنه تعامُل مع كادر استخبارات الكي. جي. بي القديم، الذي لا يتورع عن ارتكاب ما عنّ له من تصرفات أو تجاوزات. إن والتر لاكير لا يلبث أن يوضح أن أفضل سبيل لفهم بوتين وسلوكياته ومواقعه وقراراته هو ذلك الذي يرى في الرئيس الروسي شخصا وطنيا – أو قوميا روسيا سلطويا وان آراءه إنما تتماهى مع آراء عموم مواطنيه الروس فضلا عن أن مواقفه – كما يحاول المؤلف تأصيلها – تعود في جذورها وأصولها إلى أفكار روسيا – القرن التاسع عشر، وهي الأفكار التي يرى المؤلف – بحكم خبراته الواسعة – ان روسيا كانت بلدا يختلف عن نظرائه في غرب أوروبا، بما في ذلك موقف أقرب إلى التحاسد تتخذه روسيا ازاء ما استطاع الغرب الأوروبي ان يحققه من رفاهية وازدهار.

بوتين والحنين للماضي

والحاصل أن بوتين الذي امضى 16 عاما في منصبي رئيس الوزراء ورئيس الاتحاد الروسي، الإعلام يمثل – من منظور تحليل هذا الكتاب – قائدا أو زعيما يعمل على تحريك نوازع النوستالجيا في مشاعر مواطنيه – بمعنى التوق والحنين الجارف إلى حقبة مضت من زماننا، ونعمت فيها روسيا بدور القوة العظمى في عالم النصف الثاني من القرن العشرين. مع ذلك فالمؤلف لا يرى في بوتين مجرد استعادة لشخصية الديكتاتور (الدموي) السابق جوزيف ستالين (1879- 1953)، ولا يرى ان بوتيــــن شيوعي بالمعنى الكلاسيكي القديم.

ثم يشفع المؤلف هذه الاحكام بالتأكيد في تحليله لشخصية بوتين – على ان الرئيس الروسي لا يطرح ولا يتبنى شعار ديكتاتورية البروليتاريا أو يتغنى بفردوس الطبقة العاملة، ولا يعمل أو يدعو إلى تصدير ثورة أيديولوجية فيما يتجاوز حدود الوسط الذي يعيش فيه.

صحيح – يعترف مؤلفــــنا – بأن بوتين اتخذ خطوات حـــازمة بحق الإعلام التلفزيوني المستقل، ولم يتورع عن معاقبة تايكونات – هوامير البيزنس، ومنهم من أعمل في ثروة البلاد استغلالا، بل ونهبا خلال حقبة يلتسين. وصحيح أنه دخل في مواجهة مع مجـــلس البرلمان (الدوما) وألغى قاعدة اختياره حكام الاقليم بالانتخاب.

لكن الاصح ما يؤكد عليه كتابنا من جانب آخر، وهو أن بوتين أعرب عن تفضيله استعادة قيام دولة قوية أطلق عليها وصف ديمقراطية السيادة، مع التأكيد – كما ينبه مؤلفنا – على عنصر السيادة بالذات.

بعدها يعمد المؤلف أيضا إلى بلورة ما يتصوره بأنه أسلوب حكم روسيا في المرحلة الراهنة، واصفا نهج البوتينية في هذا المضمار وبشكل يلخصه والتر لاكير على النحو التالي: التدخل الذي يكاد يكون كاملا (من جانب الدولة – أداة الحكم عندما يتعلق الامر بالقضايا ذات الاهمية).

بعدها يفصل المؤلف هذا النهج موضحا أنه يقوم في تصوره على أساس رأسمالية الدولة مع اتباع عناصر من السياسة الليبرالية في مجال الاقتصاد، في حين أن أهم عنصر في هذه الأيديولوجية الجديدة يتمثل – كما يؤكد المؤلف أيضا – في إذكاء روح القومية الروسية مصحوبا بنزعة مناوئة – حتى لا نقول مضادة – أو معادية للغرب (في أوروبا الغربية والولايات المتحدة).

البوتينية وتأييد الوسط

على كل حال، تؤكد فصول هذا الكتاب جدارة بوتين بحكم روسيا، فيما يذهب المؤلف إلى أن نفوذ بوتين إنما يكمن في تأييد تيارات الوسط في المجتمع الروسي الراهن وليس بين صفوف نخبة اليسار الديمقراطي، ولا صفوف اليمين الوطني المتعصب، ثم إن هذا النفوذ مترجَما إلى تأييد من جانب القواعد الشعبية يتأتى من واقع حقيقة لا يتورع مؤلفنا والتر لاكير عن تسجيلها على النحو التالي: الشعب الروسي يريد الاستقرار واستتباب النظام أكثر مما يريد الحرية والديمقراطية.

والحق ان من واجبنا في معرض النقد والتحليل ان نختلف مع هذه المقولة فإعطاء الأولوية للاستقرار أمر لا غبار عليه من ناحية المبدأ، وهو لا يتعارض بداهة ولا عمليا مع إتاحة السبل أمام حرية المواطن، بقدر ما إن هذا الشعور بالحرية المكفولة بحكم القانون هو الكفيل باستتباب الأوضاع وسيادة الاستقرار.

مشكلات معقدة يواجهها بوتين

يختتم المؤلف طروحاته بما يشبه تبرير هذه الأوضاع التي ما برحت روسيا تعيشها في ظل البوتينية، حيث يوضح لاكير أيضا أن رجل الكرملين الأول ما زال يواجه أوضاعا صعبة ورثها للأسف في مضمار الاقتصاد، وتتمثل في حالة اللامساواة الاقتصادية الاجتماعية واصفا اياها بانها الوضع الأسوأ الذي تعانيه روسيا بأكثر مما هو الحال في نظيراتها من الأقطار المتقدمة أو شبه المتقدمة حيث تضم روسيا حتى الآن – والعهدة على المؤلف طبعا – عددا لا يتجاوز 110 من الروس الأفراد الذين يمتلكون نسبة 35 في المئة من ثروة البلد بأسره.

هنا لا يسع قارئ الكتاب إلا ان يلتمس أعذارا شتى لأي أساليب رادعة وربما قاسية، قد تعيشها روسيا المعاصرة ولو مرحليا، تحت حكم البوتينية التي ما برحت تمد ظلالها عبر فصول هذا الكتاب.

الهوس الجيوبوليتيكي يسيطر على روسيا

صحيح ان بوتين حاول ان ينصّب نفسه بطلا وداعية لقوة أوراسية (تجمع فيها موسكو بين أوروبا وآسيا)، وهنا انتشر الحديث عن التأثير المنغولي (الآسيوي) على مقدرات وأوضاع روسيا التي تمتد شرقا عبر الربوع الآسيوية في طريقها الممتد إلى المحيط الهادئ. إلا أن كتابنا لا يلبث أن يدحض هذا التصور. وهنا يسجل مؤلفنا ملاحظته مؤكدا على أن روسيا لاتزال تربطها وشائج عديدة وراسخة مع أوروبا بالدرجة الأولى من ناحية الثقافة والتاريخ واللغة والديانة.

ثم نلاحظ أيضا – من واقع تحليلنا لمقولات الكتاب – أن مؤلفه يرى أن هذا النهج الذي يتبعه بوتين أو البوتينية – لا يستند إلى أيديولوجية بمعنى عقيدة سياسية فكرية، أو إلى نظرية متبلورة يصدر عنها رجل الكرملين القوي: إن والتر لاكير يبلور نهج البوتينية الراهن – وهو ما نقره كقارئين للكتاب – في عبارة واحدة وهي: مذهب البوتينية في مجال السياسة والإدارة والحكم. والمعنى في هذا السياق بالذات أننا لسنا إزاء قائد يمسك مقاليد الحكم في بلده الكبير من موقع المفكر أو المنظر (بتشديد النون) أو الفيلسوف، بقدر ما إن هذا القائد – بوتين- يحكم روسيا من موقع إدارة دفة الحكم والعمل على استنهاض همة شعبه من خلال تذكيره بالدور القيادي الذي سبق لهذا الشعب الاضطلاع به خلال العقود الاربعة أو تزيد من القرن المنصرم.

ثم يتوقف الكتاب عـــند ما يصفه المؤلف بالـــــشغف الشديد من جانب الروس المعاصرين، حكاما وساسة ومواطنين – بنزعة يلخصها المؤلف في العبارة التالية: الهوس الجيوبوليتيكي، بمعنى التركيز المسـتمر على الموقع الجغرافي لروسيا، وهو الذي يجـــمع، كما أسلفنا، بين شرقي القارة الأوروبية وشمال غربي القارة الآسيوية. بيد أن المؤلف لا يلبث عبر فصول الكتاب أن يفند هذا الشغف موضحا – كما اسلفنا أيضا – أن روسيا هــــي في التحـــليل الأخير بلد ينتمي في الأساس إلى الواقع الأوروبي أو فلنقل شرق أوروبا. ومع ذلك فان هذه النزعة في الإصغاء إلى البعد الجغرافي الأورو- آسيوي ويمثلها النيو- أوراسيون كما يصفهم الكتاب، إنما تفنّدها حالة الجهل من جــــانب الروس بشكل عام بالواقع الآسيوي.

المؤلف

والتر لاكير كاتب سياسي مخضرم، يبلغ من العمر الآن 95 سنة. وهو مولود في مناطق بروسيا القديمة التي أصبحت الآن جزءا من دولة بولندا. وبرغم هذه الاصول الجرمانية فقد تنقل لاكير للعيش والعمل الصحافي والفكري في مناطق شتى من خارطة العالم: ما بين إنجلترا وأميركا والشرق الأوسط، كما تولى إنشاء وإدارة العديد من مراكز البحوث السياسية وقتها ومنها مثلا معهد التاريخ المعاصر في لندن، ومجلس البحوث الدولية التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية في العاصمة الأميركية واشنطن.

صحيفة البيان الأماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى