بوعلام صنصال يشخّص أمراض القرن روائياً

منذ روايته الأولى «قسَم البرابرة» (1999)، ما برح الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يثير الجدل في الوسط الأدبي الفرنسي والعربي، مع كل إصدار جديد له، بفضل موهبته الروائية والكتابية، وأيضاً بسبب مواقفه الجريئة التي لا تخلو من التحريض. في روايته الأخيرة، «قطار إيرلينغن»، التي صدرت حديثاً عن دار «غاليمار» الباريسية، لا يشذّ عن هذه القاعدة، فمن خلال القصّة التي يرويها فيها، يستسلم لتأمّلٍ طويل وعميق في عالمنا، خصوصاً في مجتمعات القارة الأوروبية التي، بعدما شكّلت مصدر المهاجرين الذين استعمروا أميركا، أصبحت هدف المهاجرين القادمين من الجنوب.

وكما في كل واحدة من رواياته، يأتي تأمّل صنصال في عمله الأخير مرفقاً بتساؤلات بصيرة وجريئة، ومحمولاً على جناحي مخيّلة جامحة وساحرة، وهو ما يجعلنا نتلقّى الواقع المستحضَر بوصفه استيهاماً والعكس بالعكس، وما يفسّر بالتالي التحذير الذي يتقدّم جزءي روايته والمقتبَس من «جحيم» دانتي: «أنت الداخل إلى هذا الكتاب، اطرح عنك كل أمل في تمييز الخيالي من الواقع».

أحداث الرواية تقع في فضاءين جغرافيين وزمنيين مختلفين. في الجزء الأول، نتعرّف إلى البارونة أوتي فون إيبرت التي تعيش في بلدة إيرلينغن الألمانية الصغيرة وتدير إمبراطورية مالية ضخمة أسّسها أخيها إرنست في أميركا ضمن ظروف مشبوهة.

لكن في أحد الأيام، يحاصر البلدة المذكورة عدوٌّ مقلِق بقدر ما هو خفيّ تمكّن من احتلال أجزاء واسعة من المعمورة. من هو هذا العدو؟ ما هو هدفه؟ إخضاع الشعوب؟ موتهم؟ في إيرلينغن المعزولة عن العالم، تسقط الأقنعة بسرعة وتنتشر رائحة عفنة، رائحة الفساد والجبن، ويتحوّل السكّان إلى كائنات شاحبة ترتجف خوفاً من ذلك العدو الذي يتربّص بها ويبدو على وشك الحصول على استسلامها من دون الحاجة إلى محاربتها.

وكما لو أن ذلك لا يكفي، تضرب البلدة عاصفة ثلجية تُحكِم كلياً عزلتها، لكنها لا تمنع وصول خبر قطار قادم عن قريب من عاصمة الولاية لإخلاء سكّان البلدة. قطار مؤلف من خمس أو ست عربات لإخلاء 12 ألف شخص؟ الخبر يؤكّد أن القطار سيقوم برحلتين، لكن الجميع يعلم أن ذلك لن يكفي. ومع ذلك، نرى الجميع في انتظاره.

الجميع باستثناء البارونة فون إيبرت التي تسعى إلى تنظيم المقاومة الشعبية في موازاة انكبابها على كتابة رسائل إلى ابنتها حنّة الموجودة في لندن، تروي فيها ما يحدث في البلدة، ونتعرّف من خلالها إلى ظروف قيام إمبراطورية فون إيبرت المالية ونفوذها المخيف، وإلى خطر انهيار هذه الأمبراطورية وتفكّك عالم البارونة مع ظهور هذا العدو الخفي. وترافق هذه الرسائل ملاحظات تدوّنها البارونة وتصلح لتشييد رواية توكل ابنتها بمهمة كتابتها.

في الجزء الثاني من الرواية، نقرأ رسائل الشابة الفرنسية لييا بوتييه التي تكتبها من لندن إلى أمّها إليزابيت، على رغم وفاة هذه الأخيرة. ومن مضمون هذه الرسائل، نعرف أن هذه الأمّ أمضت ثلاثة عقود تعلّم مادة التاريخ في ثانوية للجانحين في ضاحية سان دوني الباريسية، وحين بلغت سنّ التقاعد، توجّهت إلى ألمانيا للعمل كمربّية لطفلة من عائلة فون هورنربرغر الثرية. نعرف أيضاً أن إليزابيت كانت سعيدةً بعملها الجديد، وأنها توجّهت يوماً إلى مدينة بريمر لزيارة مرفأها الذي غادر منه نحو سبعة ملايين ألماني إلى القارة الأميركية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ومن بين هؤلاء، فيكتور فون هورنربرغر، الجد الأكبر لربّ عملها، الذي جمع ثروة ضخمة من تجارة فرو القندس، ثم عبر اسغلاله سكان أميركا الجنوبية الأصليين، قبل أن يستقرّ في أفريقيا الجنوبية ويصبح رئيساً للشرطة ووزير المناجم. وفي متحف المرفأ المذكور، تتوقف إليزابيت طويلاً أمام واحد من تماثيل الشمع التي تملأه، ليتبيّن أنه تمثال إرنست فون إيبرت، شقيق البارونة أوتي.

وحين تتعرّض فرنسا لموجة من الاعتداءات الإرهابية في نهاية 2015، تشعر إليزابيت بضرورة القيام بشيء ما، فتعود إلى باريس وتتوجّه مع أصدقاء لها إلى مسرح الـ «باتاكلان» الذي استهدفته نيران الإرهابيين. لكن لدى عودتها إلى المنزل، تتعرّض لاعتداء داخل المترو وتقع في غيبوبة طويلة تستيقظ منها تارةً بشخصيتها وتارةً أخرى بشخصية البارونة فون إيبرت…

باختصار، رواية مجدِّدة وآسِرة سواء في شكلها أو بتقاطُع سرديتَي قصّتها، وبالتالي بوضعها وجهاً لوجه أمام مرحلتين تاريخيتين عرفتا هجرةً كثيفة: الأولى، في القرن السابع عشر، شهدت فرار ملايين الأوروبيين من أوروبا بسبب الحروب والمجاعات والاضطهادات الدينية والسياسية، واستقرارهم في أميركا وأفريقيا وآسيا حيث جرّدوا سكّان هذه القارات الأصليين من أراضيهم ونهبوا ثرواتهم ونكّلوا بمن قاومهم وحوّلوا من بقي على قيد الحياة إلى عبيد. والمرحلة الثانية، في زمننا الراهن، تشهد فرار أحفاد المستعمَرين السابقين بكثافة من بلدانهم، للأسباب نفسها، واستقرارهم في ضواحي المدن الأوروبية حيث يحلّون تدريجاً مكان السكان الأصليين ويفرضون على مَن تبقّى منهم نمط عيشهم وتفكيرهم.

ولا يحتاج القارئ الى التفكير طويلاً كي يعلم بأن سكان بلدة إيرلينغن ليسوا سوى استعارة لشعوب القارة الأوروبية التي أفسدها السلام والرفاهية إلى حد لم تعد فيه قادرة على رؤية الأخطار التي تتهدّدها وباتت تنمو داخل مجتمعاتها، وحين ترى هذه الأخطار، غالباً ما تخضع لها، متناسيةً الثمن الذي دفعته في الماضي القريب لبلوغ الحرية التي تتمتّع بها.

لكن الأوروبيين ليسوا الوحيدين المستهدَفين في رواية صنصال، بل جميع شعوب العالم لكونها «لا ترى أبعد من أقدامها وتميل إلى عدم الحراك، ما يجعلها أشبه بقطعان من الماشية لا يحتاج من ينوي سرقتها إلى أكثر من وعدها بأن العشب أكثر خُضرةً في الجهة المقابِلة. وهو ما يفسّر صعود الشعوبيات واليمين المتطرّف من جهة، والتعصّب الديني من جهة أخرى».

ومَن انزعج في الماضي من الكاتب لتركيز انتقاده في رواياته السابقة على التطرّف الديني في منطقتنا، ندعوه إلى قراءة هذه الرواية التي لا تسلم فيها أي ديانة من نقده. فبدلاً من وعد الناس بالفردوس، يرى صنصال أنه من الأفضل وعدهم بالكدّ والعرق، ودفعهم إلى تقبّل وضعهم البشري. وفي هذا السياق، لا تفلت العولمة أيضاً من قدحه لكونها أيضاً «ديانة تبتكر فكرها الخاص وميكانيكيتها الخاصة»، لكن لا قائد أو مرشِد يتحكّم بسيرها، وبدلاً من توزيعها الثروات والسعادة في شكلٍ أفضل، نراها تزيد الأثرياء ثراءً والفقراء فقراً.

وأبعد من قصّتها المثيرة والمواضيع الراهنة المعالَجة فيها، تفتننا «قطار إيرلينغن» بجماليات لغتها الرشيقة وتفجيرها الإطار الروائي التقليدي واستبداله بصَرْحٍ معقًّد يأتي على شكل «مُربِكة» (puzzle) تتطلّب منّا جمع قِطَعها بأنفسنا. وفي حال أضفنا الكتّاب الكبار الكثر الذين يحضرون داخل نصّها (كافكا، هنري دافيد ثورو، دينو بوزاتي، دانتي، فيرجيل جيورجيو، بودلير، كامو، بريفير، فولتير، بروست…) ويستثمر صنصال بمهارة بعض أعمالهم وأقوالهم لتعزيز خطابها الراديكالي، لتجلّت لنا كل قيمة هذه الرواية.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى