بول بولز قارئُ العرب
في مدينة نيويورك وفي شهر كانون الأوّل (ديسمبر) من العام 1910، كانت ولادة الكاتِب والمُترجم والمُؤلِّف المُوسيقيّ والرحّالة الأميركيّ بول فريدريك بولز. وبسبب تربيتهِ الصارمة والمُتزمّتة، وعلاقته الشائكة المُرتبِكة بوالدَيه، منذ طفولته وحتّى مراهقته، والتي انتهت برحيله نهائيّاً من المنزل ومن الولايات المتّحدة بأكلمها، شبَّ بولز في عُزلةٍ تامّةٍ عن محيطه وأقربائه ورفاقِ الدراسة. وقد بلغَ الأمرُ به، أنّه بقيَ حتّى التاسعة عشرة من عمره، لا يعرفُ الفرقَ بين الذكرِ والأنثى لجهة التكوين الجسديّ.
كان الصديقُ الوحيد لبول بولز، حتّى بلوغه، هو الكِتاب. وعلى وجهِ التحديد، كلّ ما هو أدبيّ. في تلك المرحلة المُبكّرة، التهمَ الأدبَ العالَميّ التهاماً، وتأثّر بالعديد من الكُتّاب، وإن كانت طفولته قد تأثّرت على وجهِ الخصوص بأدب إدغار ألن بو. لذا، لم يكُن غريباً أن يقرِض الشعر في سنواته المُبكرة، قبل التحوّل إلى كتابة القصّة والرواية، ولاحقاً مُمارسة الترجمة. لكن قبل أن يصبّ بولز كلّ تركيزه على الجانب الأدبيّ من موهبته، أبدعَ في مجال الموسيقى، فألّفَ العديد من المقطوعات الرفيعة للأبوا والكلارينت والبيانو وغيرها. وكَتَب بولز كذلك للأوبرا، كما للسينما، وخصوصاً لأورسون ويلز، وأرثر كويستلر، وجوزيف فيرارا، وغيرهم. وكَتَب للمسرح أيضاً لكلّ من تينسي وليامز، وليام سارويان، وغارثيا لوركا، على سبيل المثال لا الحصر. وقد أسهَمت الموسيقى في التعريف به أدبيّاً وفنّياً إلى حدٍّ ما في أميركا وأوروبا، وساعَدته على عقدِ بعض الصداقات المهمّة مع أسماء كبيرة في تلك المجالات.
كان بولز من بينِ مئاتِ الأدباء والفنّانين الذين تردّدوا على شقّة الأديبة الأميركيّة غيرترود شتاين، والتي كان بيتها الباريسيّ بمثابة المزار للكُتّاب والفنّانين من جميع أنحاء العالَم. وكانت شتاين هي من أَسدَت لبولز أهمّ نصيحتَين كان من شأنهما التأثير العميق على مجرى حياته لاحقاً. فقد كانت شتاين أوّل من صارحته بأنّ ما يكتُبه لا يمتّ إلى الشعرِ بصلة. وكانت النصيحة الثانية له بضرورة زيارة المغرب، وخصوصاً طنجة، لأنّها ستروقُ له كثيراً. وعلى الرّغم من عناد بولز واستقلاليّته وتمرّده، فقد تقبَّلَ النُصح بصدرٍ رحِب، فما لبث أن شقّ لنفسه، في مجال الرواية والقصّة والترجمة، ذلك الطريق المُميّز الذي لا يُدانيه أحد فيه، على الأقلّ من بين الكُتّاب الأميركيّين. ثم اتّخذ لنفسه وزوجته الأديبة الرائعة “جين بولز” (1917 – 1973)، من طنجة وطناً جديداً عاشا فيه منذ سنة 1947 وحتى فارَقا الحياة، هي في بداية السبعينيّات، وهو في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1999.
هناك، في طنجة التي عشِقها بول بولز وهامَ بها، أخذَ إنتاجه الأدبيّ في التدفّق، واستمرّ على هذا النحو لأربعين سنة خلت تقريباً، إلى أن أقعَده المرض وأضعف حركته ونشاطه إلى حدّ كبير. وفي تلك الفترة، كتَبَ بولز أربع روايات، أشهرها “السماء الواقية” و”دعهُ يسقط”، وأكثر من بضع وخمسين قصّة، نُشرت جميعها في مجلّات أدبيّة متنوّعة، قبل أن تصدرَ في مجموعاتٍ مُختلفة في الفترة ما بين 1950 و1986. هذا فضلاً عن الترجمات التي أبدعها من وإلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة، التي كان يُجيدها، وكذلك ترجمة أعمال بعض المُبدعين العرب مثل “الخبز الحافي” لمحمّد شكري، والتعريف بآخرين مثل محمّد المُرابط وغيره من السرديّين المَغارِبة.
في أميركا، يُعتبر بولز وأدبه عموماً، مجرّد أدبٍ لأديبٍ أجنبيّ اغترابيّ، وأنّه إجمالاً، لا يمتّ إلى الواقع الأميركي بصِلة. كما يزعم النُقّاد أنّه ” ليس سوى كاتِب يكتُبُ بالمصادفة باللّغة الإنكليزيّة”. وعندما نقتربُ بالفعل من أدبه، نجدّ أنّ أحداثه تدور، في الغالِب، في مُدنِ المغربِ وفي الصحراء الكبرى وأفريقيا وأحياناً أميركا اللّاتينيّة، حيث البيئة البدائيّة، سواء في الغابة أم الصحراء. وأنّه، بصفةٍ عامّة، مُفعمٌ بالاغتراب والحسّ الوجوديّ العميق، وهمّه الأساس هو التركيز على الكيفيّة التي ينظر بها أهلُ الثقافات الأجنبيّة إلى مخلوقات العالَم المُتحضّر، من ناحية. ومن ناحية أخرى، اصطدام الإنسان المُتحضّر بالبيئة الأجنبيّة، فإنسانُ الغرب عنده لا بدّ أن يُهزَم أمام الإنسان البدائيّ. كما أنّه تائهٌ ضائعٌ لا يكفّ عن البحثِ أو إيراد نفسه مورِد التهلِكة. وإنسانُ الطبيعة أفضل لدى بولز، ويهزمُ الإنسان الناتجَ عن مجتمعٍ تكنولوجيٍ عُصابيّ.
لذا، فإنّنا دائماً ما نجدُ عند بولز، سواء في قِصصه أم رواياته، ذلك الصراعُ الدائم، العلنيّ أو الخفيّ، بين ثقافتَين غير متوافقتَين، وبصفة خاصّة، الثقافتَين الشرقيّة والغربيّة. وقد استطاع بولز وباقتدارٍ شديد، منذ أربعينيّات القرن الماضي، أن يسبُر أغوارَ هذه العلاقة الشائكة على نحوٍ بديعٍ وعميقٍ للغاية. لذا، فإنّ القارئ لأدبِه، وأعماله بعامّة، يكتشفُ أنّه لم ينظر إلى التاريخ العربيّ والمجتمعات العربيّة والإنسان العربيّ نظرة الاستشراقيّ الذي جاء يبحثُ عن كلّ ما هو غريب أو “إكزوتيكيّ” في تلك الثقافة، ليُصدِّر إلى بلاده ما هو جديد وشاذّ وجاذب لأهل تلك البلاد. بل على العكس، فمِن خلال تلك العَين الصادِقة والقارِئة لنا بعُمق، مع تغاضينا عن بعض انتقاداته اللّاذعة والجارِحة، الحقيقيّة والعميقة فعلاً، سيُمكّننا حقّاً من قراءة أنفسنا وسلوكيّاتنا على نحوٍ أعمق، ووضْع أيدينا على علّة علاقتنا الإشكاليّة بالغرب منذ قرونٍ وحتّى اليوم.
تقنيّاً، تتميّز كتابة بولز، بالوصفِ المُكثّف البسيط والمُباشر سواء للأحداث أم الشخصيّات، وهو وصفٌ حياديّ تماماً، من دون أن يُورِّط مشاعره أدنى توريط في ما يرويه، ومن دون أيّ تعاطفٍ من جانبه مع الشخصيّات أو مصائرها أو إصدار أيّ أحكام. ويمتاز وصفه التقريريّ هذا، بالحيويّة البالِغة والتّرابط المُحكم والانسياب الشديد، وهو، إن شئنا الدقّة أكثر، وصفٌ درامي تتقدّم فيه الأحداث بشكلٍ هادئ مُنخفض النبرة، حتّى عندما يصف أكثر المشاهد عُنفاً وحدّة. ودائماً ما يتعمّد بولز في أدبهِ الابتعاد عن الجُمل الطويلة والألفاظ أو المفردات الصعبة المُركّبة، ويندر وجود الزخارف البيانيّة الاستعاريّة أو الوصف بالمُحسّنات البديعيّة السافرة، ومع ذلك عندما يرِد أيٌّ منهما، فإنّه يرِد على نحوٍ مُثقل بمَعانٍ كثيفة. كذلك، يتعمّد بولز تغييب السارد بصيغة المتكلّم غياباً شبه كليّ في أعماله.
كما تتّسم كتابته بالعنفِ الفنّي الجميل غير المُباشر، الذي يُشبه وقائع وأسلوب “بو” في سردِ قصصِ الرعب بسلاسة، لدرجة بالكاد تلحظُ الرعب فيها. أمّا العالَم الذي تدور في فلكه شخصيّاته، فهو شديد الخصوصيّة، كما أسلفنا، يتداخل فيه العنف والقسوة والبراءة، التي تقتربُ من السذاجة في أحيانٍ كثيرة. وما تؤكّد عليه شخصيّاته دائماً، هو الوحدة والانعزال، والاندفاع الأخرق نحو المجهول، بوعيٍ أو من دون وعي، وكذلك الضياع، سواء على المستوى الداخليّ أم الخارجيّ؛ فهي شخصيّاتٌ هروبيّة مُستسلِمة، ليست مُقاتلة أو مُحارِبة أو بطوليّة على الإطلاق. وقصّته النموذجيّة في هذا الصدد، هي المُعنونة بـ “حادثٍ قديم”؛ حيث يَسمَح أستاذٌ في اللّهجات الجديدة لنفسه بأن يتمّ أخذه أو استدراجه إلى ظلامِ الصحراء. هذه الإشارة المتميّزة للقبول والإذعان، تُعرّضُه بسهولة شديدة إلى عنفٍ وحشيّ مُهلِك؛ فقد تمّ قطعُ لسانه، ثمّ اتُّخذ عَبداً، وأُكره على الغناءِ والرقص لآسريه، وذلك بعدما ألبسوه كساءً شديدَ الغرابةِ من علبِ الصفيح. وعلى الرّغم من قسوةِ القصّة، فهي أيضاً خيرُ تجسيدٍ لكيفيّةِ رؤيةِ بول بولز للإنسان: كطريدةٍ أو فريسةٍ رقيقة وهشّة عُرضةً للهجوم والانتهاك الوحشيّ.
من هنا كان تركيزه المُتعمّد على الأماكن أو الخلفيّات البيئيّة التي تدور فيها أحداث قِصصه، ربّما أكثر من تركيزه على الشخصيّات نفسها؛ فالبيئة والاحتكاك بها وبثقافتها، هي بمثابة الشرارة المُحفِّزة، وهي المُتسبّبة في نشوءِ الصراع والصِدام الحتميّ. وبولز باتّخاذه لتلك الأماكن خلفيّة لأعماله وبيئات لشخصيّاته، لا يُوجّه إدانة لأيّ منها، بقدر ما يوجّه إدانته إلى القادِم أو الوافدِ أو الغريبِ على هذه البيئات أو الثقافات وأُناسها، بل ويعتبر أن ردود أفعالها هي ردودٌ سويّة تماماً، مُتناسقة ومُتوائِمة مع طبيعتها وبيئتها. ومع ذلك، فلا يغيب أبداً عن ذهننا أبطال روايته الفذّة “السماءُ الواقعيّة”، وبطلُ رائعته “دعهُ يسقط”، وغيرها من القصص، التي حفرت لنفسها مكانةّ متميّزة وبارزة حقّاً في تاريخ الأدب المكتوب بالإنكليزيّة.
قبل وفاته، عانى بولز من أمراضٍ عدّة، وأجرى أكثر من جراحة لعلاج عرقِ النساء وسرطان الوجه، لكنّ أكثر ما عانى منه، كان تدهور صورة طنجة التي أحبّها، والتي انطبعت في ذاكرته وخلّدَها في أدبه. وقد رأى البعضُ هذا كوجهة نظر استعماريّة لأجبنيّ لا يريد للمغرب أن يتطوّر ويَتَمدّن. بدَوره، رأى بولز الأمر محضَ انحدارٍ وتدهور وحتّى فقدان للهويّة واستسلام خانع لمظاهر العَولمة والانمِساخ.
وربّما، سيظلّ أهمّ ما أسداه بول بولز للثقافة العربيّة، والمغرب بصفة خاصّة، حفظهُ التراث الشعبيّ الخاصّ بالفِرق الموسيقيّة المغربيّة في طول البلاد وعرضِها (على الرّغم من مُعارَضة البعض لما قام به)، وبنجاحِه في جمعِ هذا التراث المغربيّ المتنوّع والغنيّ وتسجيله وحفظِه من الاندِثار، وفي التعريفِ ببعضِ الفِرق الموسيقيّة الشعبيّة المغربيّة في أنحاءِ مُختلفة من العالَم.
كاتب ومُترجم من مصر
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)