بين الاستنزاف المعنوي والهروب الافتراضي
أُنشئَت المؤسّسات العامّة أو الحكومية نتيجة مجموعة من المتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي رافقت بناء الدولة الديمقراطيّة الحديثة في أوروبا في عصر النهضة، لتعكس بنية النظام العام الذي ينظّم شؤون الدولة وينسّقها وفق تشريعات وقوانين صيغَت لتسهيل توزيع المسؤوليات والمهام الرسمية في هذه المؤسّسات. وما ذلك كلّه إلّا وسيلة لتحقيق النفع العام للمجتمع بأسره. حيث يسند العمل في المؤسّسات الحكومية إلى مجموعة من الموظّفين الذين تربطهم علاقات اجتماعية متنوّعة الاتجاه والقوّة، ويعملون ضمن دائرة واحدة، ووفق نظام مؤسّسي وهيكل إداري منظَّم وموحَّد أُطلق عليه نظام إدارة المكاتب أو النظام البيرقراطي.
لقد رافق انتقال النُّظم الإدارية، بكلّ ما تحويه من تشريعات وقوانين وتوزيع مسؤوليات، إلى دول العالم الثالث والعالم العربي على وجه الخصوص، تشويهٌ كبيرٌ لأساسيات النُّظم البيرقراطية الفيبرية (نسبة إلى ماكس فيبر)، التي تقوم على العدالة الاجتماعية من خلال الاحتكام إلى القانون من دون أيّ تمايزات (إثنية أو طبقية أو اجتماعية أو مناطقية) تُذكَر.
لقد رافق انتقال النُّظم الإدارية الأوروبيّة إلى بلداننا تحوّلُ المؤسّسات الحكومية إلى مصدر نفوذ وقوّة وصراع بين مختلف المجموعات المجتمعية والولاءات الحزبية التي أبدت اهتماماً بالمواقف السياسية، كما خضعت لصلات القرابة والمصالح الشخصية. إنّ علاقات العمل المتنوّعة بين الموظّفين – والتي يُعتبر وجودها أمراً أساسياً وضرورياً من أجل تحقيق أهداف المؤسّسة ومن أجل بقائها واستمرارها – باتت تخضع بالدرجة الأولى لطبيعة التفاعل الاجتماعي بين الفاعلين الاجتماعيّين. وهو تفاعلٌ يتشكّل ويتحدّد بفعل مؤثّرات اجتماعية ورغبات شخصية واعتبارات إدارية يتضمّنها فضاء العمل، تمهيداً لمَأسَسَة أشكال متنوّعة من النزاع والتنافس في فضاءات العمل المختلفة؛ فمحاولة توحيد الأهداف والطموحات بين الفاعلين الاجتماعيّين في فضاء المؤسّسات العامّة لم تمنع أو توقِف استمرار الاختلافات العديدة والمتباينة بين الفاعلين الاجتماعيّين، أي الموظّفين في هذا الفضاء. وبذلك لم يَعد تنظيم العلاقات في العمل حكراً على البناء الهيكلي في المؤسّسة، بل بات فعلاً تشاركياً مفتوحاً بامتياز. وأصبحت العلاقات الاجتماعية التي يتمّ بناؤها داخل هذا الفضاء الاجتماعي، ركيزة أساسية في تحديد مسار التمثّلات الاجتماعية وشكلها وأنماطها (مراد دريوش، عبد الإله شرياط، “علم النفس: التمثّلات والممارسات اليومية”، مجلّة رباط الكتب، العدد الأول .28/3/2012). وهي تمثّلات تتكوّن من تصوّرات ومقاربات يقوم بها الفاعلون الاجتماعيّون في فضاء العمل، وتتعلّق بمعاشهم وبمعاناتهم اليومية، إلى الحدّ الذي تعمل فيه هذه التصوّرات على توجيه أشكال الممارسات الاجتماعية للفاعلين الاجتماعيّين في هذه الفضاءات، لتكون إمّا دافعاً إيجابياً وداعماً لفاعليها، وإمّا دافعاً نحو هوّة عميقة تستنزف طاقات الفاعلين في هذه الفضاءات (وهو ما يُسمّى “الاستنزاف المعنوي”).
يظهر أثر تلك التجاوزات والتداخلات في أشكال العلاقات الاجتماعية التي تربط الموظّفين الحكوميّين بمؤسّستهم. بحيث يخضع هؤلاء الموظّفون الحكوميّون لسلطة هرميّة مَبنيَّة على أُسس انتفاعية متبادَلة إلى حدّ كبير في إطار العمل الرسمي، ما يجعلهم عرضةً لسلسلة من الضغوط النفسية والاجتماعية والمهنيّة المستمرّة التي تنعكس على أدائهم الوظيفي أيضاً، وصولاً إلى مرحلةٍ أصطُلح على تسميتها “الاستنزاف المعنوي في فضاء العمل”.
ملامح عنف رمزيّة ومعنويّة
هذه الممارسات الاستنزافية التي تظهر من خلال ملامح عنفٍ رمزية ومعنوية، كالتلميح والتجريح والرفض الاجتماعي في فضاء العمل، تُقابَل بردّات فعل تتواءم مع الأدوات أو الآليات المتواجدة في هذا الفضاء. فالفاعل الاجتماعي المستنزَف يمتلك القدرة على الوصول إلى تلك الأدوات من خلال العوالم الافتراضية والتحديث التكنولوجي الهائل الذي أنتجته العولمة الكونيّة، ولاسيّما ما اصطُلح على تسميته بـ “مواقع التواصل الاجتماعي”. إذ أصبحت هذه المواقع فضاء عاماً يُستخدم لمواجهة عالم الواقع بعالمٍ افتراضيٍ صُنعت له أرضيات قويّة زادت من قدرته على التغيير والتأثير في أوجه الحياة المختلفة. عالم افتراضي يضفي على ذاتية فاعليه هويّات اجتماعية تتشكّل في أطر متباينة، وذلك من خلال استخدام الموظّفين الحكوميّين المتصفّح الإلكتروني المتاح في فضاء عملهم.
فكيف يُنتِج الموظّف الحكومي ذاته من خلال تلك المواقع الاجتماعية؟ وما هي تلك التمثّلات أو التصوّرات الاجتماعية التي يُضفيها العالم الافتراضي على الفضاء الواقعي للموظّف في مجريات حياته اليومية؟ وهل تندرج التمثّلات الاجتماعية في إطار الهروب الافتراضي الروتيني أم أنها تندرج ضمن ردود الفعل الافتراضية المقاوِمة للممارسات الاستنزافية في فضاء العمل؟
للإجابة عن هذه التساؤلات لا بدّ من تفكيك المنظومة المؤسّساتية المرتبطة ببيرقراطية المؤسّسات الحكومية وتحليلها، والتماس دورها في تشكيل علاقات القوّة الاجتماعية التي أفرزت هذه الممارسات الاستنزافية اليومية في المؤسّسات الحكومية، وذلك في ظلّ وجود ضوابط قانونية وحقوقية من المفترَض أنّها تُنظِّم العلاقات الإنسانية داخل هذه النُّظم المؤسّساتية من خلال التأكيد على مساواة الجميع في الحقوق والواجبات أمام القانون من دون أيّ تمييز عرقي أو جندري أو طبقي او طائفي، ومن دون الالتفات إلى التراتبيّات الهيكليّة للبنية الهرمية في هذه المؤسّسات العمومية، فضلاً عن البحث في مدى ارتباط ذلك بالسياق المؤسّسي العربي الذي ترافقه جملة من المؤثّرات الداخلية والخارجية كالأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
لقد هَدفْنا من خلال هذا المقال إلى فهم أثر ديناميات القوّة والضعف التي تشكّل بنية النظام المؤسّسي للمؤسّسات الحكومية وتمثّلاتها الاجتماعية الهرمية لدى الموظّفين الحكوميّين، ودورها في تشكيل ممارساتٍ استنزافيةٍ سلبيّةٍ يومية تُفضي إلى إنتاج مُستنزفَين ومُستنزفِين، مُهيمِنين ومُهيمَن عليهم، فضلاً عن الأفعال وردود الأفعال المختلفة والمبتكَرة التي تتواءم مع عصر العولمة التكنولوجية التي أوجَدت أدوات أو آليّات ولّدَت عوالم افتراضية باتت امتداداً لعالم الواقع، ومكاناً مناسباً لتفريغ طاقاتٍ سلبية أو توصيل رسائل مبطَّنة كنوعٍ من أنواع المقاومة بالحيلة الافتراضية.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الممارسات الاستنزافية في فضاء العمل ترتكز على الكيفيّة التي تتمّ بها إدارة موازين القوّة و الصراع التنافسي الذي يُبرِّر للفاعلين الاجتماعيّين في أعلى الهرم الوظيفي استخدام قانون البقاء للأقوى. بحيث يغدو نجاحهم الشخصي ومصالحهم الذاتية مبرِّراً أساسياً لتدميرٍ نفسيّ مستمرّ للحلقة الأضعف في محيطهم المهني. فهذه الممارسات غالباً ما تحدث ضمن الأنظمة والسياسات الخاصّة بالمؤسّسة والمجتمع؛ إذ ليس بالضرورة أن تكون هذه الأعمال أو الممارسات غير قانونية، أو ضدّ أنظمة المؤسّسة، إلّا أنّها تخلِّف أضراراً جسيمةً بالموظّف “المستهدَف” وبالروح المعنوية في مكان العمل، وذلك إلى حدّ كبير وواضح ومؤثّر، بات يُعرَف بـ”الاغتيال الوظيفي”.
فالاستنزاف المعنوي الذي يحتويه فضاء المؤسّسة الحكومية يقضي بنسف بطيء ومستمرّ للبنى التحتيّة للموظّف الحكومي (المستوى التعليمي والخبرات المهنيّة) التي تساعده على القيام بمهامه الوظيفية؛ وهو أمر يختلف عن التهميش الوظيفي الذي يشكّل أولى مراحل الاستنزاف المعنوي، وذلك بتحويل الموظّف “المُستهدَف” بالممارسات السلطوية من فاعل إلى مفعول به، وافتقاده للقدرات التي يمتلكها، بمعنى أنّها تصبح غير مُفعَّلَة، لتبدأ هنا عملية الاستنزاف التراكمية التي تجعل هذه الخبرات والمهارات، غير المُفعّلة أو المُهمَلَة، خبراتٍ غير مؤهَّلة لمستجدّات المهام الوظيفية، وغير مواكبة للتطوّرات المستمرّة بما يتلاءم مع التخصّصات العلميّة الجديدة والمهارات المهنيّة اللازمة.
ومن أجل تجاوز ذلك، لا بدّ من الانتقال إلى مراحل أكثر نضجاً على المستوى الإداري والاقتصادي بغية الحؤول دون تصدُّر الهيمنة الاجتماعية للنظام المؤسّسي البيروقراطي وفئاته السلطوية المستفيدة عملية صنع القرار المنفرد. لذا يُفترَض إنشاء هيئات ومؤسّسات قانونية مستقلّة تمتلك القدرة على مراقبة تلك النُّظم المؤسّسية وكذلك القدرة على المحاسبة. فالبيروقراطية هي جهاز تنفيذي ويجب أن تبقى كذلك وإلّا تحوّلت إلى شيء آخر لا يمكن السيطرة عليه.. يضرّ ولا ينفع.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)