«بين السرايات»… حدّوتة بنكهة شعبيّة
منذ أن قدّم فيلم «كباريه» العام 2008، يعتمد الكاتب أحمد عبد الله على التركيبة التي حقَّق بها النجاح في الفيلم، ألا وهي جمع أكبر عدد من النماذج الاجتماعيّة التي لا يجمعها أي رابط، في مكان واحد، أو مناسبة محدّدة. يمثّل مسلسل «بين السرايات» الخروج الأول للكاتب من تلك الدائرة، ولو قليلاً، بالرغم من أنّ العنوان يوحي للمشاهد بالاستعداد للتركيبة ذاتها؛ فـ «بين السرايات» حيّ شعبي مصري معروف، مواجه لجامعة القاهرة العتيقة، بما يمهّد لفكرة الشخصيات المأسورة في المكان، في استعادة للتركيبة المضمونة. الفارق هنا ربما، هو أنّ عبد الله نفسه نشأ في المنطقة التي هي محور العمل، ممّا مكّنه من صياغة «حدوتة» تقوم الروابط بين شخصيّاتها على أساس أعمق من مجرّد التجمّع في المكان بالمصادفة.
لم تحرِّر الحدوتة الكاتب فقط من عالمه الدرامي التقليديّ، لكنها حرّرت الشخصيات أيضاً من فخ النمطيّة، فأمكن رسمها بمواصفات ذاتية بعيدة عما تمثّله كشريحة اجتماعيَّة. من هنا برزت أهمية عنصر التمثيل في العمل، ليس ارتكازاً على نجم أو اثنين، وإنّما كبطولة جماعيّة، وتلك مهمّة مزدوجة بين الإنتاج والإخراج، الأوّل لتوفير هذا الكمّ الكبير من النجوم، والثاني لاختيارهم وتوظيفهم، وهو أمر قد يبدو بديهياً، غير أنّ هذه المهمّة باتت صعبة بالفعل، في ظلّ ازدحام السوق وضبابيَّة الرؤية.
من ناحيته، أجاد المخرج سامح عبد العزيز مهمّته. ومن المعروف عن عبد العزيز، قدرته على إنجاز المهام من دون تعقيدات، إذ إنّه صاحب أعلى معدّل تصوير في اليوم، وأقلّ أيام تصوير، والأكثر سيطرة على النجوم، والأكثر قدرة على توجيههم، حتى لو كان ذلك على حساب «الإبداع» أحياناً، باعتبار الصناعة الجيّدة في حدّ ذاتها إبداعاً.
تألّق عدد كبير من نجوم العمل، لكنّ بعضهم كان أكثر تأّلقاً، خصوصاً صبري فواز في دور محروس، أكثر شخصيات العمل تركيباً وتعقيداً، فهو المستضعَف المظلوم الذي يمتلك استعداداً هائلاً للاستقواء والظلم. امتلك فوّاز مساحة عريضة من إمكانيات الممثل: طريقة النطق (التأتأة في مناطق والثبات في أخرى)، حركة الجسد، القدرة على تجسيد المشاعر من دون كلام، وساعده على التألق تناقض الشخصية مع شخصية الضوي التي يؤديها في مسلسل «العهد»، فكانت المقارنة بين الشخصيتين في مصلحة رصيده.
كان التألُّق أيضاً من نصيب سيد رجب، وذلك أمر معتاد منه، لكنّه اعتمد في «بين السرايات» على منطقة جديدة تختلف عن قدراته المعروفة كمسرحي وحكّاء. والميزة الأكبر عند رجب هي قدرته على استخلاص الشخصيّة من أي شوائب نمطيّة محيطة بها، ليصبح هو الشخصية فحسب.
كلّ طاقم التمثيل تقريباً أبدع: سيمون، محمد شاهين، باسم سمرة، هبة عبد الغني… غير أننا نقف هنا أمام الراحل سامي العدل، الذي قدَّم في العمل آخر أدواره (بشخصيّة المعلّم زينهم)، وربما أبرزها، بعد أدائه لدور حسب الله في مسلسل «ريا وسكينة»، وكانت المشاهد التي تجمعه بابنه في العمل (أداء عمرو عابد) تحديداً، أشبه بمباراة في التمثيل لمصلحة المشاهد.
نقطتان أضرتا بهذا العمل، وقللتا من جرعة المتعة فيه، الأولى تتمثّل بالإصرار على أن يحمل العمل رسالة ما، وكأنَّ سرد حدوتة شعبية لمنطقة من أعرق مناطق القاهرة الكبرى ليس رسالة بحدّ ذاته، وكأن المتعة ليست رسالة… هكذا جاء إقحام قضية التعليم، بمشاهد مباشرة، وخطب عصماء، مع إحالات دائمة للقضية، وكأنّ المؤلف يريد أن يقول في كلِّ مشهد: «والله العظيم نحن جادون ونقدم فناً جاداً».
أما النقطة الأخطر، فهي استعجال النهاية أو كما يُقال بالعامية المصرية «سلقها»، المشروع قديم يخطط له أحمد عبد الله منذ سنوات، فلمَ كانت العجلة؟
كما ظهرت أحداث الثورة، وكأنّ المؤلف سمع عن أحداث تمّت في بلد آخر، إلى جانب صياغات غرائبيّة لمصائر الشخصيّات. فما الذي يدفع إنساناً بمواصفات محروس لتسليم نفسه إلى الشرطة، بناءً على نصيحة شقيقه مخلص (باسم سمرة)، الذي يسلّم نفسه أيضاً؟ وكيف استيقظ ضمير سليمان (محمود حافظ) المتخرّج الجامعي الذي يتاجر ببيع الجرذان والضفادع، نتيجة وفاة والده المفاجئة، فيسلّم القاتل للإعدام؟
رغم هذا يبقى العمل سيرة شعبيّة من حيث الموضوع، ومن حيث الأداء، ومن حيث النكهة.
صحيفة السفير اللبنانية