بين الشعر والسياسة
عندما تنبّه الشعراء، أن الشعر من الممكن أن يأخذ شرعية حقيقية من خلال عناصر أخرى، راحت تتنفّس القصيدة في مناخات فكرية وثقافية واجتماعية مختلفة، واختلف معها الأداء الشعري عموماً، وكتب الدكتور محمد مندور عن نظرية «الشعر المهموس»، واستفاض في شرح ذلك في كتاب صغير عنوانه «فن الشعر». ومن بين الإفساد الذي أنتجته طبيعة الإلقاء في الشعر، عملية التدوين أو الغضب الساسي الذي يهيمن طوال الزمن على كتابة الشعر، هذا الغضب السياسي المباشر، والذي لا يتحرّك وفق توجّهات إبداعية، ولكن النصّ يخضع تماماً للواقعة السياسية، فنجد أن الشعر أصبح مجرد تابع للواقعة، فإما يكون مدوناً ومسجلاً لها، أو رافضاً، أو متحمساً لها، وعندما تبحث عن الشعر في كل ذلك، لا تجد سوى كتابة خطابية لا تصلح إلا للإنشاد في مؤتمرات جماهيرية.
كسر الخطابية
وكان ديوان «الناس في بلادي» كاسراً لتلك الخطابية – في ذلك الوقت – إلا قليلاً، وكانت معركة الديوان هي البحث عن شرعيات أخرى، تبتعد عن الخطابة والإلقاء والصياح الذى كان ينتشر في تلك الآونة، ولا بد أن نتذكر أنه كانت قد تكوّنت في مصر – في تلك الفترة العام 1956-، وفي خضم معركة بورسعيد، مدرسة تحت عنوان «مدرسة الزاحفين»، وأغرقوا مصر في شعر ركيك وسخيف، ولكنه يحاول أن يستمد أهميته وشرفه الفني من شرف القضية التي يتحدث عنها، وسرعان ما ماتت هذه المدرسة تماماً، وأقلع مؤسسوها عنها، وذهب كل واحد في طريق، وسكت بعضهم تماماً.
وبقي صلاح عبد الصبور يبدع اقتراحاته الشعرية، واحداً بعد الآخر، جاء ذلك في قصائده، ثم متابعاته النقدية التي كان ينشرها في مجلة «روز اليوسف» المصرية، وكذلك في مجلة «الآداب» اللبنانية، ولم تكن قصائده فقط هي التي تقدّمه، ولكن مقالاته ودراساته ومشاكساته الفكرية، كانت عناصر أخرى لتقديمه، وإبرازه كواحد من المثقفين الاستثنائيين في ذلك الوقت، وهو الذي كان ينقل أفكاراً غربية، ولم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره العام 1955.
وعندما قرأ الناس القصيدة التي اتخذ الديوان عنوانها «الناس في بلادي»، فوجئوا بلون آخر تماماً عما يعرفونه، واعتادوه في الشعر السابق، فلا هتافات، ولا شعارات، ولا صراخ، ولكن مجرد أفكار تتمثل المجاز، ولا ترتكبه، فالقصيدة لا تقرر أن الناس صقور، ولكن الشاعر يضع «ك» التشبيه، حتى لا يغرق قصيدته في مجازات واستعارات ممجوجة.
وبالتالي شعر متابعو عبد الصبور، أن هذا الشاعر ليس مجرد منشد، يضع الحرف جوار الحرف، والكلمة جوار الكلمة، ولكنه ينطلق من رؤية فلسفية وفنية في الوقت ذاته.
ورغم ذلك، فإن قصيدة في الديوان، اشتهرت جداً بعد ذلك، وكان عنوانها «عودة ذي الوجه الكئيب إلى الاستعمار وأعوان الاستعمار»، شغلت الناس والنقاد كثيراً دون قصائد الديوان الأخرى، ولكن بدر الديب لم يتوقف عندها كثيراً، وإن كان قد نثر بعض مفرداتها في مقدّمته بفتور، ولكنه لم يخضعها لدرس نقدي مطول كما فعل مع القصائد الأخرى، ولم يحتف بها، وبدأها صلاح متسائلاً:
(هل عاد ذو الوجه الكئيب؟/ذو النظرة البكماء والأنف المقوّس والندوب/هل عاد ذو الظفر الخضيب/ذو المشية التيّاهة الخيلاء تنقر في الدروب /لحناً من الإذلال والكذب المرقش والنعيب/ومدينتي معقودة الزنار /عمياء ترقص في الظلام/ويصفّر الدجال والقوّاد والقراد والحاوي الطروب/ في عرس ذي الوجه الكئيب».
ولم يكن مصدر الاهتمام الذي أبداه بعض النقاد، إلا من زاوية أن القصيدة كتبت لمهاجمة جمال عبد الناصر، والقصيدة قد كتبت كما أشار البعض العام 1954، أي بعد الإطاحة بالرئيس محمد نجيب، وحلول جمال عبد الناصر رئيساً للبلاد بعده، وكل التحليلات والقراءات الصاخبة التي كتبت عن القصيدة، راحت تعقد مقارنات بين ما في القصيدة من تشابه مع شخصية وأحداث حركة جمال عبد الناصر.
ولو كان النقاد بذلوا مجهوداً نقدياً، بعيداً عن تلك النظرة المباحثية للقصيدة، لكانوا خرجوا بنتائج جمالية مهمة، وعندما طبع الديوان في القاهرة، وصدر عن دار المعرفة العام 1962، صدر دون القصيدة، وحذفت مع هذه القصيدة، قصائد أخرى، ولكن لأسباب فنية، وكان رأى صلاح أنه قد تجاوز تلك القصائد بكثير، فلذا أجرى مجزرة صغيرة للديوان، ليخرج بالصورة التي يرتضيها فنياً.
ولأن صلاح عبد الصبور كان في نقطة الضوء دوماً، وكانت كل إحداثاته محل اهتمام فهو كشاعر أحدث صحوة شعرية واسعة وهامة في الحياة المصرية الأدبية والثقافية، فكانت أشعاره وكتاباته عموماً محل شد وجذب، وكانت مقالاته ودراساته المتنوّعة تثير حراكاً فكرياً واسعاً، لذلك كانت الجهات الكلاسيكية تترصّده، وتعمل على تسخيف شعره، وهناك الواقعة الشهيرة، عندما قررت لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب برئاسة عباس محمود العقاد إحالة هذا الشعر ـ مع شعر عبد المعطي حجازي ـ إلى لجنة النثر، والتي اندهشت بدورها من تلك الإحالة، ونشأت معركة واسعة شاركت فيها أقلام كبيرة ومرموقة، وكتب آنذاك الدكتور محمد مندور، مقالاً حاداً عنوانه «حول الشعر الحديث»، وقال في مقاله: لقد دهشت من هذا القرار الذي أرى فيه نكتة الموسم، ولا أدري كيف وافق أعضاء لجنة الشعر رئيسهم على هذا الرأي، ولا كيف سكت عليه سكرتير اللجنة، الذي يعتب شعره من هذا النوع الجديد، الذي أصرّ العقاد وجارته اللجنة في اعتباره نثراً غير داخل في اختصاصها».
أقول لكم
وللأسف لم تكن طغمة الشعراء والنقاد التقليديين أو الرجعيين هم وحدهم الذين هاجموا شعر صلاح عبد الصبور، ولكن المعركة استقطبت أقلاماً أخرى، مثل الدكتور والفيلسوف زكي نجيب محمود، الذي كتب دراسة عن ديوان «الناس في بلادي»، وعنونها بـ: «ما هكذا الناس في بلادي»، وراح ينثر القصيدة في دراسته، ويناقشها من زاوية منطقية حادة، ولكن صلاحاً كان واقفاً بالمرصاد لكل ما يطرح من قراءات سلبية، حتى أن أصدر ديوانه الثاني «أقول لكم»، هذا الديوان الذي فتح مساحة جديدة من القراءة العربية والمصرية، وأصبح عبد الصبور ركناً ركيناً في حركة الشعر العربية.
ومن المؤسف أن حركة النقد في مصر ربطت شعر صلاح كما حدث في قصيدته «عودة ذي الوجه الكئيب» بمجريات السياسة الواقعية، ولام بعض النقاد عليه، عندما كتب عن حزنه الدفين، فتساءل الناقد الكبير المتحمّس للمنجزات السياسية والصناعية في مصر: «كيف يشعر صلاح عبد الصبور بالحزن، ونحن نبني السد العالي؟»، ولم تكن نكتة فقط، بل ألهمت صلاح عبد الصبور، ليكتب كتابه المهم جداً «حياتي في الشعر» ليتحدّث عن حزنه الوجودي والفلسفي، المنفصل تماماً عن تلك الإنجازات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الواقع، الشعر يخصّ الشاعر ورؤيته العامة، وعندما يريد أن يشارك في الحياة العامة، فكان يكتب بإخلاص ورؤية فكرية صافية، وغطت كتابات صلاح عبد الصبور النقدية والفكرية مساحات كبيرة من الاهتمامات في الثقافة العربية والأوروبية كذلك.
وفي ديوانه الثاني: «أقول لكم» كان عبد الصبور السهل الممتنع، والفيلسوف دون معاظلات، والشاعر في كلمات تخفي خلفها الموقف الوجودي العميق، ومأزق الشاعر في الكون:
(سأحكي حكمتي للناس، للأصحاب، للتاريخ، إن أذنت/مسامعه الجليلة لي، فإن طابت وإن حسنت / سيفرح قلبي المملوء بالحب، يفيض القلب/ إذا ما أغفت الكلمات في الأسماع هانئة/ مندّاة بعض الحب/ إذا ما صادفت كلماتنا ـ الشعراء ـ شعراً في مسامعكم/ إذا ما قال قائلكم/ وراء الكلمة المهموسة الترجيع قلب عاش/ وإنسان، ووجه غانية، وكأس مرّ/ وحفنة برّ/ وسعى في فجاج الأض يا أصحاب) لا مجال لشرح شعر عبد الصبور، ولا مجال لنثره حتى نتبين تلك الروح التي تسعى للولوج بيسر إلى مدارك القارئ ووجدانه، دون أي معاظلات ورغم ذلك فقصائد صلاح تنطوي على مستويات، فكلما غصت فيها، أعطتك جديداً تخفيه في الكلمات والمعاني والصيغ والتراكيب.
لذلك لم يكتف صلاح بكتابة القصيدة الغنائية، لأنها بالفعل تجاوزت تلك الحالة الغنائية، فلجأ إلى المسرح، حيث إنه راح يجوب في اللغة والرؤى درامياً، فكتب مسرحيته الأولى «مأساة الحلاج»، ونشر فصلاً منها في مجلة «الآداب» أولاً، وتجاوب القراء والنقاد مع ذلك الفصل، حتى نشر المسرحية، وتناول شخصية الحلاج المعقدة، ليبحث فيه عن كل المعاني التي ضاعت في عصرنا الحالي، ولم تكن «مأساة الحلاج» وحدها، ولكنه كتب: «بعد أن يموت الملك، وليلى والمجنون، ومسافر ليل، والأميرة تنتظر»، ولاقت تلك المسرحيات تجاوباً كبيراً في الحياة الشعرية والمسرحية والفكرية على السواء. وعاد النقاد لعادتهم الدائمة، وهي الربط المباشر بين ما كتبه من مسرح، وما يحدث على الساحة من أحداث سياسية، وكانت مسرحيته «بعد أن يموت الملك» هي مسرح العمليات النقدية الساذجة، والمقارنات الركيكة بين الشعر والسياسة، ولم يدركوا إطلاقاً بأن صلاح عبد الصبور العظيم، لا تقف إبداعاته عند أبواب السياسة أبداً، ولا نستطيع اختصار تجربته، في هذا الجدل السخيف بين الفن والسياسة، فما أبدعه صلاح عبد الصبور يخضع للرؤى كافة، ولا يتعالى بأي شكل من الأشكال عن الوقائع، ولكنه لا يكون معتقلاً فى تفسير واحد على وجه الإطلاق.
صحيفة السفير اللبنانية