بين النَّشرَين: الورقيّ والإلكترونيّ

لم يتبقَّ “لشيخ الموزّعين العرب”، الأستاذ أحمد حيدر، من المطبوعات والصُّحف الورقيّة ما يستطيع أن يكمل به مشوار مؤسّسته التي بناها عبر 54 عاماً في الكويت، وبعد رحلة كفاح تكلَّلت بالنجاح وجعلت منه أحد الروّاد الكبار في عالَم التوزيع والنشر.. اليوم، ها هو يستجمع ملفّاته وأوراقه وموظّفيه للعودة إلى مكتبه القديم، الواقع في شارع فهد السالِم في قلب مدينة الكويت، وهو الذي انطلق منه في الستينيّات، وكان شعلة من النشاط اليوميّ يذهب بنفسه ليقف مع الموزّعين يُعايش همومهم ويتعاطى معهم “كشريكٍ” وليس كمسؤول.

لقد كانت تلك الفترة، أي الستينيّات والسبعينيّات، بمثابة العصر الذهبيّ للصحافة اليوميّة العربيّة والمطبوعات، وكانت بمثابة “الجسر الطائر” الذي يغذّي المجتمع والمؤسّسات والمكتبات في دولة الكويت بمعظم الصُّحف اللّبنانية والمصريّة والمجلّات الكويتيّة التي تصدرها وزارة الإعلام والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وأشهرها بالطبع مجلّة “العربي”.

تراجَع مركز الثقل، أي الصحافة والمطبوعات، وحلّت مكانها منصّات مواقع التّواصل الاجتماعي، فصار “الفيسبوك”، بالنسبة إلى الناشر والقارئ، أهمّ من المكتبة والموزِّع، لدرجة أنّ بعض دُور النَّشر العربيّة صارت تشترط معرفة عدد الـمُتابعين “Followers” للمؤلّف قبل الشروع بالطَّبع، باعتبار أنّ تحديد المُتابعين سيُعطي النّاشر الثقة بقدرتة على التوزيع، ومعرفة الفئة التي ستُقبِل على هذا الكِتاب، وكأنّ ذلك بمثابة “ضمانة” لمرحلة ما قبل الطَّبع وما بعدها..

ربّما هذا يقودنا للإطلالة على ثورات الربيع العربي، التي انطلقت من “بيوتات التواصل الاجتماعي” المتعدّدة، ولم يكن لديها مرجعيّة واحدة بل مرجعيّات ليس بينها قاسم مُشترَك يجمعها سوى الرفض والتغيير لكن من دون سقف ولا إطار يرسم مسارها.

الصحافة المطبوعة والكِتاب المطبوع يمرّان في أسوأ مراحلهما. دَورة التغيير حطَّت في الديار العربية، ولم تقتصر على الوسيلة فقط، أي ناقلة الثقافة، بل طاولت القارئ نفسه، أي أنّ الوعاء الثقافي، على الرّغم من التغيير الذي أحدثته فيه ثورة الاتّصالات، انتقل إلى المتلقّي العربي الذي بات اليوم أسير الفضاء الإلكتروني، والذي خلق بدَوره “النَّجم”، أي “السوبر ستار”، في عوالِم الأدب والرواية والصحافة وغيرها، في مباهاةٍ تُحاكي نجوم السينما والتمثيل والرياضة والموديل. بمعنى أنّ الثقافة أخذت منحى التسطيح والـ 140حرفاً التي غطَّت سماءنا وملأت الفراغات المتبقّية من دُور النَّشر والموزّعين والصُّحف المطبوعة والتقليدية.

الكاتب في صحيفة “الراي” الكويتية، أ. د. مصطفى عطيّة جمعة، تناول في مقالة له رواية “الفيسبوك” وهي التي تكوَّنت من خلال مبادرة المؤلّف ذاته، أي أنّه قام بكتابة جزء من النصّ ونشْره على “الفيسبوك”، ومن ثمّ تلقّى آراء القرّاء وتفاعلهم مع النصّ المنشور، فواصل كتابته حتّى اكتملت الرواية، في تجربة جديدة ومثيرة .. ولذلك اعتُبرَت كأوّل رواية فيسبوكية كُتبَت فصولها ونُشِرت مباشرةً على هذا الموقع الإلكتروني، فصلاً بعد فصل.

في أسطورة التسويق

لعلّ ما يُتداوَل حول “أساطير التسويق” عن طريق “بيوتات التّواصل الاجتماعي” وقدرتها على صنع المعجزات، يجعل الإقبال عليها من قبل جيل الشباب في حالة تصاعد مُخيفة. كأن يخرج كاتِب قصّة مغمور ويضع على غلاف كتابه “طبعة رقم 39” علماً أنّ القصّة لا يكون قد مضى على صدورها أكثر من سنة بعد! وكأنّه بذلك يخترع لعبة جديدة قائمة على “الخداع” للترويج لبضاعته!

فئة الشباب، وهي غالباً المُستهدَفة والمطلوب خطب ودّها أو قياس مدى علاقتها بالقراءة، تنال الاهتمام بالمتابعة. فصحيفة “القبس” الكويتية أجرت استبياناً في المجتمع الأكاديمي عام 2016 على عيّنة عشوائية لمعرفة نسبة الطَّلبة الذين يهتمّون بقراءة المجلّات المتوفّرة في المكتبات الجامعية وأعدادهم. وقد بيَّن هذا الاستبيان أنّ نسبة 60% منهم لا يقرأون تلك المجلّات الثقافية، وأنّ 44% منهم لا ينهون قراءة كِتاب واحدٍ شهرياً، بينما 22% منهم لا يقرأون أيّ كِتاب خلال شهر. وربّما كان ذلك عائداً إلى أنّ معظم الشباب لا يهتمّون بالقراءة التثقيفيّة لكنّهم يبحثون في الوقت ذاته عن الإثارة السياسية والاجتماعية وأخبار المشاهير. فقد أجمع متخصّصون وإعلاميّون، في ندوة شاركوا بها مؤخّراً، على أنّ الهواتف الذكيّة تسرق الكثيرين من الحياة الاجتماعية.

وبعيداً عن قصّة المُفاضَلة بين قراءة كِتاب إلكتروني أو كِتاب مطبوع، وعلى الرّغم من تدنّي نسبة الأمّية، حيث بلغ عدد الأميّين الكويتيّين 26108 أمّي من الوافدين عام 2015، فقد أظهر استطلاع إلكتروني قامت به جامعة الكويت أيضاً حول “لماذا لا تقرأ” ؟ أنّ تغيّر نمط الحياة، نحو مزيد من التطوّر والرفاهية، كان له الأثر الواضح في ابتعاد الفرد عن القراءة.

تلك الاستنتاجات تجد ما يوازيها من أبحاث تضع أربعة عوائق في وجه الصحافة المطبوعة، وهي عزوف قاعدة الشباب ما بين 17 إلى 24 عاماً عن القراءة، وتراجُع المَورِد الإعلاني، فضلاً عن أنّ الهدف الرئيس لنسبة 30% من المُشتركين في الصُّحف هو الدخول في سحوبات تجريها هذه الصُّحف سنوياً، وكسب الهدايا وليس القراءة، وبخاصّة أنّهم لا يقرؤون أصلاً اللّغة العربية.

النَّشر الإلكتروني و”الإعلام الاجتماعي” صاحبتهما أدواتٌ جديدة لم تكُن مُستخدَمة في الإعلام الورقي المكتوب والكِتاب المطبوع، ولهذا وُجد مَن يستجيب لهذه الفكرة. فصاحب موقع “حروف” من دولة الكويت السيّد جاسم المنيخ، أوضح في حوار صحافي جرى معه أنّ هذا الموقع أنشأه ليتيح لكلّ شخص أن ينشر ما يريد من كُتب، بحيث يتمّ الربط بين الكاتِب والقارئ. فقد بلغ عدد الكُتب الإلكترونية التي قام بنشرها حوالي 174 كتاباً إلكترونياً.

هل النشر الإلكتروني، بكلّ أوجهه وأدواته، يسير باتّجاهٍ إجباريّ يستلزم إلغاء ما سبقه أو أنّ الصراع سيبقى مفتوحاً وفي سباقٍ ليس له حدود؟ وهل يُمكن أن ينجح التّزاوج إذا ما استغلَّت المنصّات بشكلٍ متطوّر يتواءم مع الأعراف والقوانين السائدة، أو أنّ اللّغة والمُنتَج الذي تتعامل به الصحافة والمطبوعة بات يحتاج إلى تجديد، وبثوب ورؤية يختلفان تماماً عمّا هو سائد؟

أسئلة مشرَّعة ومشروعة ستبقى قيد التداول إلى أن تستقيم المُعادلة الجديدة.. لكن يبقى الحديث عن سؤال جوهري، هل الصحافة الورقية قادرة على الاستمرار؟

خبراء الإعلام يعتقدون أنّ المشكلة تكمن بالمحتوى، وهذا تحدٍّ يفرض نفسه على المطبخ الصحافي داخل المؤسّسات الإعلامية وإيجاد لغة تستطيع التعبير عن تطلّعات الناس وأفكارهم، وتحديداً فئة الشباب. وكلّما جرى التوسّع بإعطاء مساحة أكبر لحرّية التعبير، استقطبت الصحافة مزيداً من الجمهور. فالقارئ اليوم يريد شيئاً جديداً؛ فهو لم يَعُد يندهش لشيء، ويتلقّى المعلومات بشكلٍ مجّاني. ثمّة حاجة إذن لتعود الصُّحف بشكلٍ مُبهر، وبالتالي لا بدّ من قوانين تحمي حرّية تداول المعلومات وتوفّرها، والاقتراب أكثر من حياة الناس، وتقديم تقارير استقصائية. ولئن ظهر اتّجاه يميل إلى طباعة الصُّحف وتوزيعها بالمجّان، فذلك سيكون وسيلة قادرة على زيادة عدد القرّاء.

ما المطلوب إذن؟

على الصحافة الورقية أنّ تطوِّر نفسها وتبدأ بتغيير الطُّرق التقليدية في التحرير. وهذه أوّل خطوة في رحلة الألف ميل، أي أنّ المطلوب هنا هو التحديث.

لا بدّ من الاعتراف بالإعلام الجديد والتعامل معه كشريك والاستفادة منه، وإذا شئنا الاقتراب أكثر من الصحافة الإلكترونية في عالَمنا العربي، علينا الإشارة إلى أنّ معظم الصُّحف العربية التقليدية والمعروفة لم تستطع أن تخلق نموذجاً تحريريّاً كاملاً لصحيفة إلكترونية مختلفة تماماً عن الصحيفة الورقية، بل هناك عمليات تجميل، وإضافات للطبعة الورقية، وتحسينات مثل تحميل الفيديوهات وروابط ومتابعات إخبارية. هذا “النموذج الهجين” والمُختلَط لم يُحسِن الفصل أولّاً، ولا تسويق نفسه ثانياً بالاستحواذ على الحصّة المُناسِبة من الإعلان، وبات أسير المشهدَيْن الورقي والإلكتروني، وهذا على الرّغم من المحاولات التي تستحقّ التقدير من بعض الصُّحف الخليجية والعربية، والتي تقوم بإنتاج صحيفتَيْن إلكترونية وورقية تسيران بخطَّين متوازيَين وتختلفان بالأدوات والجمهور والمحتوى الذي تقدّمه كلٌّ منهما.

وفي ما يخصّ الإعلام الجديد، هناك مَن يتوجَّس منه ويضع حوله علامات استفهام، لا بل يقف على مسافات بعيدة منه، طارحاً جملة آراء حياله، منها أنّه إعلام فاقد للمصداقية والثقة، وفاقد للحرفية المهنيّة والدقّة في نقل المعلومة، وأنّه مُحصَّن في أحيان كثيرة من المساءلة؛ فهل هذا يكفي؟

*سكرتير تحرير جريدة القبس الكويتيّة

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى