بين دمشق وتونس …مكوك من المسرح والأوجاع
شكراً للذين ما زالوا يقفون عند شبّاك التذاكر في المسرح كما يقفون أمام الأفران.
شكراً للذين يدخلون العرض ويخلعون مع معاطفهم وقبّعاتهم الأحكام المسبقة والحساسيات الضيّقة، يعاينون المعروض ويتفحّصون جودته دون أن يعنيهم المصدر أويسألوا عن العلامة التجاريّة.
شكراً للذين يغضبون أو يبتهجون كالأطفال عند نهاية العرض، يدفعون بأبواب الكواليس ليشتموك أو يقبّلوك ولكن بأفواه دون أنياب ولا يكتفون بالمصافحات الباردة قائلين: (يعطيك العافية) وكأنّك انتهيت لتوّك من شطف وتنظيف درج بنايتهم.
شكراً للذين يأتون المسرح كما يأتون دور العبادة دون أن يسألوا عن بطاقة الدعوة أو الجلوس في الصفوف الأماميّة.
شكراً لرجل أعمال عربيّ، موّل مسرحاً، ما زال يفكّر في دعم المسرح ولا يتعامل مع أهله كقرّاد، يأتي لمشاهدة العرض الذي أنفق عليه ولا يجد له مقعدا مع (المتبروظين) من أهل المؤسّسة المسرحيّة في الصفوف الأماميّة.
شكراً لجمهور من ذهب، صبور وعنيد، ينسى غطرسة أشباه النقّاد والمبدعين القصديريين في كلّ مرّة و يأتي باحثاً عن فرجة شبه مستحيلة ولا يترك مقاعده شاغرة للغبار والإحباط.
شكراً للمسرح الذي يجعلنا نختلف بعد أن أدمنّا ثقافة المسايرات و(المواجبات ) والمسلّمات.
يقول المثل الإنكليزي: لا تشكر أحداً على قول الحقيقة.
نعم، إنها الحقيقة المرّة، لقد أصبحنا نشكر الواقع على واقعيته والساعة على دقّة مواعيدها والألوان على بقائها في ألوانها.
كم مرّة يجب أن نموت لتحي الحياة، كم مرّة يجب أن تسحق فيها لينتبهوا لوجودك، كم صفعة يتحمّل خدّك كي تقول :إني نسيت الإهانات وسأعفو عمّا سيلحق بي.
هل حقّاً هذا العالم لا يتسع إلاّ للقدّيسين ؟ومتى تعلم أنك نزلت من أيقونتك ؟
(حين يصفّق لك الآخرون) أجابني قريني وهو يصفعني مثل كلّ لحظة ثمّ أردف هامساً: التصفيق هو آخر جرعة في عبوة الأكسجين وأنت على أبواب الهلاك أيّها المغفّل.
التصفيق، يا لهذا الحوار الصاخب بين راحتين، إنه آخر ما تفعله اليدان بعد التغسّل والدعاء وأول ما يصل إلى الأذنين بعد طنين الكفّ، لذلك عدّه الناس من علامات الإستحسان… كيف!
لقد اعتاد الملوك أن يأمروا الخدم بتحضير ما تبقّى من طيب الشراب والطعام عبر هذه الإشارة السّهلة لأنّ الفم مشغول بالمضغ – وما الذي جعله مستساغاً ومحبّباً لدى أهل الفن ؟!
لأنّ هؤلاء كانوا في ضيافة أهل السطوة والسلطان وكلّما رضي عنهم الأخيرين واستحسنوا قولهم أمروا لهم بالمزيد ممّا يملأ المعدة ويسدّ الفم والعين والأذن عبر هذه الإشارة التي تشكّلت في جيناتهم ومورّثاتهم… فأضحى الواحد عاشقاً لسماع مجرّد التصفيق وإن لم يرافقه طعام أو شراب أو مكافأة ما كالدعوة إلى الرقص والعزف والغناءـ
أنت ماكر وتضليليّ ومخادع أيّها القرين، اسمح لي أن أصفعك ولو مرّة واحدة في حياتي ـ أجدر بك أن تصفّق لي بدل أن تصفعني ـ ولكن اليد الواحدة تفعل كل شيء ما عدا التصفيق ـ تفعل كل شيء ما عدا بتر أختها، هات يدك الآن، كفّ عن لعنة الكتابة بين الأرض والسّماء وساعدني على ربط الحزام فالطائرة بدأت الآن بالنزول التدريجي باتجاه مطار تونس قرطاج.
قرطاج، أوّل قبلة طبعها السوريون على الساحل الإفريقي للمتوسّط سنة 814 قبل ميلاد الناصريّ الذي قال يوما (امنح خدّك الأيمن لمن صفعك على الأيسر)، فهل عادت القبلة اليوم إلى شفتيها أم إلى خدّها كهذه الطائرة وذاك المطار.
أيّها المكوك الحائر فوق سجّادة لن تكتمل حياكتها أبداً، أيتها المسلّة التي خاطت برنساً أمازيغياّ وعباءة عربيّة ثمّ غابت في كومة قشّ الزمن الملتهب، بين مطارين متباعدين لا يمكن أن يمرّ إلاّ خطّ مستقيم واحد.
أما آن للياسمين أن يعود إليه عطره، عفواً.. شوكه، أما آن لهذا الفارس أن يترجّل، عفواً مرّة أخرى… أما آن لهذا المترجّل أن يمتطي حلمه ..
هذا هوّ ليل تونس، ستارة يختفي وراءها مشهد نهاريّ نظنّه رائعا على إيقاع أيّام قرطاج المسرحيّة، من سأقبّل الآن، أعتقد أنك أمسيت أيّها الحائك فندقاً يسكن فندقاً فاقترب منّي أيها القرين كي أقبّلك.