بين صوفي وأصولي
“مولاي إني ببابك قد بسطت يدي ” , كذا يناجي الصوفي الورع ربّه بمنتهى الوداعة والسكينة … إنه لم يلوّح بقبضته مهدّدا غيره من خلق الله , لم يدّع القرابة ويحتكرها لنفسه , لم يقصد دارا دون غيرها رغم رمزيّة العتبات المقدّسة …ولم يعيّن نفسه حاجبا أو سيّافا أو جابيا أو ناطقا رسميّا و وكيلا حصريّا لمن جلّ جلاله .
تعظم الذنوب فتعظم معها مغفرة الله ورحمته , تكبر المحبّة فيسود الوجد و” يستبدّ ” الوله ويتبدّد الخوف …كيف يخشى ويخاف محبّ حبيبه ؟
كيف تطمع في ثواب وتهرب من عقاب أمام من توحّدت في ملكوته كلّ الأضداد وسما اسمه فوق كلّ الأسماء ؟ ” أو تحسب نفسك جرما صغيرا وفيك انطوى العالم الأكبر ” ؟ .
أين منهم هؤلاء الذين بحّت أصواتهم اليوم على منابر الفتنة بالدعوة إلى إبادة النسل وحرق الزرع وهتك الأعراض واستباحة الناس ؟
تعلو الأصوات عندما تتباعد القلوب , تنخفض , تخفو حتى تخفت وتهمس حين تتقارب , تتّحد وتتوحّد في تسبيحة واحدة وترنيمة خالدة فلا فرق عندئذ بين ركن لقرآن ودير لرهبان .
شتّان بين من يعيش ليحيا في سبيل الواحد الأحد……السبيل الذي لا نهاية له إلاّ السرمديّة واعتلاء مراتب الصالحين وأصحاب السرّ الأقدس …. وبين من يعيش ليموت في سبيل أوحى له الشيطان زورا أنها سبيل الله , في حين أنها مضلّلة , مزوّرة وقاتلة مثل متاهة ” القرصان والأربعين حرامي ” …أمّا الكنز فقد تركه تحت قدميه وسار إلى حتفه مثل قطّ يلحس مبردا .
“السلفي الأصولي الجهادي الاسلامي ..” وهلمّ جرّا من التسميات والتوصيفات , ذلك أنّه كثير القلق والتوجّس ,غير مستقرّ على معرفة شافية , فيعجّل بهلاكه مكتفيا ومتأبّطا أسفارا يجهلها مثل ” لا تقربوا الصلاة .” و ” ويل للمصلّين ” و ” أعدّوا لهم ما استطعتم ..” و ” هل يستوي الذين يعلمون ..” وغيرها من الذكر الحكيم ….إنه ذاك الذي عناه “الخضر” العبد الصالح بقوله في الآية الكريمة ” إنك لا تطيق معي صبرا ” .
أمّا الصوفي فيبقى صوفيّا سواء لبس الصوف أو الحرير , خشن الثياب أو أرقّها في نظر العامة أو الخاصة ومن نظر إليه عن مقربة أو ومن خلف حجاب ….إنّه غالبا ما يرتبك في أمر شغله عنه حب الله …هو لا يعرف كيف يعرّف نفسه …التعريف يحتاج إلى مسافة على كل حال .
تنبّه أيها المؤمن ـ يا طريّ العود ـإلى أنّ المدارس والكليات وزوايا المؤدّبين وحلقات المدرّسين والمبشّرين والدعاة والواعظين لا توصلك إلاّ للشواطئ وعتبات البوّابات , تمنحك المجداف ولا تبحر بدلا عنك , تأخذك إلى الفراش ولا تهبك جفون النوم وأجنحة الحلم …واعلم أنّ الشعائر والأركان ليست نهاية الرحلة في معرفة الله ….هل لمحت يوما ضابطا عالي الرتب , متوهّج النياشين …يحرس ثكنة عسكريّة …رغم واجب الحراسة
وضرورتها ؟…
يعتمد الأصوليّ خطابا حسيّا ماديّا وغرائزيّا نظرا لمحدوديّة خياله وفقر ذائقته وانحصار بيئته فتمسي أدوات المقاربة والقياس لديه بائسة إلى درجة السخرية والإضحاك وهذا ما دعى بالمعرّي ـ فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة ـ في رائعته ” رسالة الغفران ” إلى التهكّم من شخصية “ابن القارح ” عبر تصوّراته الساذجة حول اليوم الآخر وثنائية الجحيم والنعيم , كما دفع الأمر نفسه أبا القاسم الشابي بكتابة أطروحته النقدية العاصفة ” الخيال الشعري عند العرب ” التي اتهم فيها الأغلبية السلفية في ثلاثينات القرن الماضي بانعدام الخيال على عكس الحضارات المتقدّمة .
إنّ ما تقدّم من هذين المثالين المتقدّمين والساطعين في عصرنا القديم والحديث يبرهن ـ بما لا يدعو للشك ـ على أنّ ثقافة النقل قد غلبت ثقافة العقل في الفكر السلفي فكبّلت من جموح خيالنا وألزمت أجيالا كثيرة بالركون إلى ” وسائل الايضاح ” الملموسة فمازالوا “صبية ” في ايمانهم , يخشون الغول المتربّص خلف الباب ويطمعون في قطعة الحلوى إن لم يشقّوا عصا الطاعة باستخدام عقولهم وخيالهم .
يكبر الخوف ويستفحل حين يغيب الأمان الذين يصنعه الإيمان من أوسع أبوابه , لا بفضل الوساطات الكاذبة والتي تحاول أن تحجز لنفسها غرفا مفروشة في الحياة الآخرة فتبيع نفسها للسماسرة الكبار في لعبة الأمم ومراكز النفوذ….أمّا الصوفي فيردّد مع ميخائيل نعيمة قصيدته التي قالها في فترة مابين الحربين:
” سقف بيتي حديد , ركن بيتي حجر فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر
فإذا الليل طال والظلام انتشر من سراجي الضئيل استمد البصر ”
أخيرا .. ولكي لا تأخذنا العزّة بإثم المقارنات الجافة والجائرة أحيانا , فإنّ المشروع العقلاني للدين والدولة قد وقع ليّ عنقه أثناء فترات التخلّف والاستعمار الغربي وقبله العثماني والمملوكي وغيره حتى فتحنا أعيننا على نموذجين مشوّهين للتديّن , واحد غيبي ساذج يناشد حلقات الدراويش باسم الصوفية وآخر أصولي تكفيري يدّعي استئصال الأول ….فمالك بكارثتين من بدّ .