
سان فرانسيسكو- قال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت: «الحقيقة ما قبل جبال البيرينيه خطأٌ ما بعدها».
وكأنّه أراد أن يقول إنّ الحقيقة ليست مطلقة، بل ابنة بيئتها، تتبدّل ملامحها بتبدّل الناس والأرض. فما يُعدّ في بلدٍ عدلًا قد يُعدّ في آخر جورًا، وما يُرى هنا فضيلة قد يُرى هناك عيبًا.
الحقيقة إذن، ليست حجرًا ثابتًا في صحراء الوجود، بل كائنٌ حيّ يتنفس من رئة الثقافة ويكتسي بلون المجتمع.
لقد عشتُ هذا التنوّع وشهدتُ أثره.
في الغرب، تُقاس الأمور بميزان المنفعة والبراغماتية؛ حيث تُقدَّم الفكرة على العاطفة، والنتيجة على النية.
أما الشرق، فلا يزال يحتفظ بروحه الأولى، روح الجماعة والقبيلة، حيث يُقاس الإنسان بما يقدمه للآخرين، لا بما يحققه لنفسه.
ورغم ما يُؤخذ على هذا الانتماء من انغلاقٍ أحيانًا، إلا أنّه يحمل بين طيّاته قيَمًا نبيلة: التكافل، الشهامة، وإغاثة الملهوف. تلك المفاهيم التي وُلدت في رحم القبيلة، يوم لم تكن هناك دولة ولا مؤسسات، بل قلوب تعرف طريقها إلى الخير دون إشارة أو قانون.
في المقابل، صارت الدولة الحديثة في الغرب تتولّى مهام الرحمة والعدل، فحملت عن المجتمع عبءَ الفرد.
لكنّها، رغم تنظيمها الدقيق، لم تستطع أن تمنح الدفء الذي تمنحه الروابط الإنسانية الأصيلة.
فالأنظمة تُنظّم الحياة، لكنها قلّما تُحييها.
تذكّرني هذه المفارقة بحكايةٍ قديمة:
فارسٌ عربيّ شقّ الصحراء على صهوة فرسه، حتى لمح رجلًا ملقى على الرمال، قد أنهكه العطش ولفحته الشمس. رقّ له قلب الفارس، فنزل إليه وسقاه الماء، ثم حمله خلفه على فرسه حتى بلغا مشارف العمران. هناك، التفت الرجل وقال بمكرٍ لطيف: «فرسك جميلة… بل هي أصيلة!» ثم باغته وغدر به وانتزعها منه.
ابتسم الفارس رغم الخيانة، وقال له بصوتٍ هادئ:
«هي لك، لكن لا تخبر أحدًا بما حدث بيننا… كي لا يموت فعل الخير بين الناس.»
كم كان لفعل الخير آنذاك قداسة لا تُقاس بالمقابل، بل بالمبدأ.
أما اليوم، فقد غلبت المصلحةُ الرحمة، واستبدل الناسُ دفءَ القلوب ببرودة الحساب، وصار الأخ يخاصم أخاه، والجار يغدر بجاره، والإنسان يحفر قبر أخلاقه بيديه.
لقد غاب الوعي، ونام الضمير، وتاه الإنسان في زحامٍ من الأنا والمصالح.
فهل تعود الإنسانية يومًا لتُنير الطريق؟
هل نرى زمنًا تُقاس فيه الأوطان بعدد القلوب النقيّة، لا بعدد الأبراج والأسوار؟
ربّما يعود النور حين نؤمن أنّ الإنسان وطنٌ قبل أن يكون تابعًا لوطن،
وحين ندرك أن الحقيقة لا تُقاس بالجغرافيا، بل بنقاء الضمير،
وأن العدالة تبدأ من قلبٍ يعرف كيف يحب… ويعرف كيف يغفر.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة