تحليلات سياسيةسلايد

بين موسكو وكييف.. خطوط ساخنة ترسم حرباً باردة جديدة

تتصاعد، بصورة مستمرة، حدة التوتر بين موسكو من جهة، وكييف ومن خلفها حلف الناتو من جهة أخرى، على خلفية الحشود العسكرية المستمرة، والتي تدفّقت خلال الأسابيع الأخيرة على نطاق الحدود بين روسيا وأوكرانيا. هذا التوتر، وان كان ظاهرياً بدأ في التصاعد اواخر العام الماضي، إلاّ أن واقع الحال يشير إلى أن التعزيزات العسكرية الروسية، في اتجاه الحدود الجنوبية والشرقية لأوكرانيا، لم تتوقّف عملياً منذ آذار/مارس الماضي.

الفارق بين المواقف الأوروبية والأميركية حيال هذه الحشود حينها، وبين مواقفها الآن، يكمن في أن هذه المواقف كانت العام الماضي أكثر حذراً، وخلت من أي حديث واضح عن نيّات روسية في التوغل في أوكرانيا. لكن الآن، باتت الولايات المتحدة الأميركية تحذّر، بصورة متواصلة، من رغبة روسية في اجتياح شرقي أوكرانيا.

المحاولات الدبلوماسية الحثيثة، التي تمّت خلال الأيام القليلة الماضية، من أجل تهدئة حدة التوتر بين الجانبين، تمّت في ظل أجواء لا تبشّر بإمكان تحقيق اختراق نوعي في هذا الصدد، لكنها أظهرت بصورة واضحة أن الأزمة الحالية في العلاقة بين موسكو وكييف، باتت لها امتدادات تشمل العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو، وتتعلق بتحسس موسكو خطورة التمدد الغربي في شرقي أوروبا.

جهود دبلوماسية غير مُجدية

هذا الأمر ظهر بصورة واضحة خلال اللقاءات التي تمّت بين دبلوماسيين أميركيين وروس في جنيف، ثم في الاجتماع الذي ضمّ ممثلي حلف الناتو وروسيا في بروكسل، وتلاه اجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والذي انعقد في الثالث عشر من الشهر الجاري في فيينا. فموسكو دخلت هذه المباحثات وهي تؤكد أنها لن تقبل أقلَّ من تحقيق الضمانات الأمنية التي طلبتها أواخر العام الماضي من حلف الناتو، بحيث ربط مفاوضوها بين موافقتهم على الحوار مع واشنطن بشأن قضايا أخرى، مثل الحدّ من التسلح، وبين الحصول على هذه الضمانات.

البند الأساسي في هذه الضمانات كان تعهّد الحلف عدمَ التوسع في شرقي أوروبا، ورفض انضمام دول الاتحاد السوفياتي السابق إلى الحلف، وخصوصاً أوكرانيا، وسحب الحلف قواته من دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق. تُضاف إلى ذلك عدة بنود أخرى متبادلة، تبدو مرتبطة أكثر بالجانب الاستراتيجي من العلاقة بين شرقي أوروبا وغربيّها، منها تعهُّد كل من موسكو وواشنطن إزالةَ البنية التحتية لنشر الأسلحة النووية خارج أراضيهما، وعدم إجراء مناورات عسكرية تتمّ فيها محاكاة استخدام أسلحة نووية، والتزام روسيا وحلف الناتو عدمَ نشر صواريخ في مناطق تسمح لكل طرف بإصابة أراضي الآخر، والتزام الحلف تَفاديَ التحرّش بالوحدات العسكرية الروسية في البحر الأسود وبحر البلطيق، وإنشاء مجلس مشترك بين الحلف وروسيا، من أجل البحث في المعضلات الطارئة ذات الاهتمام المشترك، وحلّها.

الردود الأميركية على الضمانات التي طلبتها موسكو تم تقديمها فعلاً منذ أيام، ويبدو أنها لم تَحُزِ الرضا الروسي، وخصوصاً أن الولايات المتحدة وحلف الناتو أعلنا سابقاً تمسكهما برفض تقديم أيّ ضمانات أمنية إلى موسكو، لكنهما قدَّما، في الوقت نفسه، ما يمكن أن نعتبره “تنازلاً”، حين عرضت الولايات المتحدة بدء مباحثات مع روسيا بشأن المعاهدات المتعلقة بنشر الصواريخ الاستراتيجية، والقيود المفروضة على تطوير الصواريخ المتوسطة المدى ونشرها في أوروبا، الأمر الذي قد يؤدي إلى إحياء جزئي لمعاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، والتي انسحبت واشنطن منها عام 2019.

السبب الرئيسي في موقف واشنطن وحلف الناتو هذا، يعود إلى رغبتهما في عدم منح موسكو القدرة على التحكم في قرار انضمام دول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو، وخصوصاً أن موسكو قامت بالضغط، بصورة ناجحة، على دول، مثل جورجيا وأوكرانيا، من أجل منعها من الانضمام إلى الحلف عام 2008، وهو ما أدّى إلى توسيع نطاق الطموح الروسي، ليشمل كل دول حلف وارسو السابق.

ما بين حشود العام الماضي وحشود العام الجاري

بالعودة إلى الجانب العسكري في هذا التصعيد، يمكن قراءة فوارق مهمة بين الحشد العسكري الروسي أوائل العام الماضي، والحشد الحالي. ففي العام الماضي، ادَّعت موسكو أن هذه الحشود هي جزء من برنامج المناورات السنوية التي تُجريها وحدات المنطقة العسكرية الجنوبية وأسطولا البحر الأسود وبحر البلطيق، لكن اتَّضح، بعد ذلك، أن عدة وحدات تم نقلها – وتشمل صواريخ تكتيكية ودبابات وطائرات مقاتلة – ظلّت في أماكن تمركزها الأخيرة ولم تَعُد إلى قواعدها الأصلية. والفارق الأساسي بين الحشود الحالية والحشود السابقة، يكمن في أن الحشود الجاري نقلها حالياً تتضمن وحدات ذاتية الحركة للدفاع الجوي، وهو ما كان ينقص الحشود التي كانت تتنقل عند التخوم الشرقية والجنوبية لأوكرانيا.

سيكون من المنطقي أيضاً أن نقارن بين تعداد الحشود الروسية الحالية عند التخوم الأوكرانية، وتعداد الحشود التي تم الدفع بها العام الماضي، وهي مقارنة تُظهر، بصورة واضحة، أن الأعداد التي تستهدف موسكو حشدها في كل نقاط الحشد هي فعلياً أكبر كثيراً من العدد الذي تم حشده العام الماضي، وبلغ بين 80 و120 ألف جندي، بحيث تشير التقديرات الغربية إلى أن موسكو تستهدف، بحلول نهاية الشهر الجاري، حشد مئة كتيبة كاملة التجهيز في المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية والجنوبية الغربية لأوكرانيا، بإجمالي يتراوح بين 170 و200 ألف جندي. وتشير الأرقام المتوافرة حالياً إلى أن الجيش الروسي حشد فعلياً عشر مجموعات قتالية كاملة التسليح في المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية والجنوبية الغربية لأوكرانيا.

على مستوى تكتيكات التحرك، يبدو من النمط المتَّبَع، من جانب الوحدات العسكرية الروسية الجاري نقلها، أنها تتّبع أسلوباً يجعل من الصعب تحديد حجم التشكيلات التي يتم حشدها وعديدها وعتادها بصورة دقيقة. وهو أسلوب يضع الطرف الآخر تحت ضغط مستمر نتيجة علنية هذه الحشود.

يُلاحَظ أيضاً، منذ آذار/مارس الماضي، أن أي انسحاب لأي وحدة قتالية من مواقعها قرب الحدود مع أوكرانيا، يتمّ بالأفراد فقط من دون المعدات، التي يتم تركها في أماكنها بصورة واضحة وظاهرة لعمليات الاستطلاع الجوي المعادية. وهذه النقطة بالذات يمكن ملاحظتها من خلال التسجيلات الكثيرة للوحدات العسكرية الروسية، والتي يتم نقلها عبر السكك الحديدية، بحيث يبدو أن عمليات الحشد السابقة أعطت الجيش الروسي القدرة على رصد وسائط نقل المعلومات عن تحركات قواته وتتبّعها، بحيث يستخدم هذه الوسائط في نقل الرسائل الإعلامية التي يريدها إلى الطرف الأخر، وهذا ربّما يفسّر ظهور بعض المنظومات النوعية والقديمة ضمن المعدات التي يتم نقلها.

يُضاف إلى ما سبق، أن الوحدات الروسية، في أثناء تحشيدها الحالي، تستخدم مسارات التجميع ونقاطه نفسها، والتي كانت متَّبَعة العام الماضي، بحيث تم نقل الوحدات التابعة للمنطقة الجنوبية والمنطقة الغربية ومنطقة موسكو نحو مواقعها قرب الحدود الأوكرانية، انطلاقاً من نقاط حشد أساسية، وهي مدن “فولغوغراد” و”فورونيج” و”يلينا” و”بريانسك” و”بوغونوفو”، بحيث تم توزيع القوات انطلاقاً من هذه النقاط في عدة اتجاهات، تشترك جميعها في أنها تحيط بالأراضي الأوكرانية.

ففي اتجاه الشمال الشرقي، تم الدفع بالقوات إلى مدن “بيلوغراد” و”لاغوف” و”كليموفو”، وتبعد الأخيرة عن الحدود مسافة 18 كيلومتراً فقط. أمّا في اتجاه شرقي الحدود الأوكرانية، فيتم الدفع بالقوات في اتجاه مدينتي “روستوف” و”تاجنوروج”، ومنها بحراً نحو التخوم الشرقية لمدينة “ماريوبل” التي تسيطر عليها أوكرانيا. أمّا جنوباً، فتم الدفع بالقوات في اتجاه مدينتي “ستافروبول” و”كراسوندار”، ثم عبر الجسر العابر لمضيق كيرتش في اتجاه شبه جزيرة القرم. وجدير بالذكر أن حشوداً إضافية تم الدفع بها في اتجاه المناطق القريبة من المثلث الحدودي بين أوكرانيا وروسيا وروسيا البيضاء، وخصوصاً مدينة “كلينتسي”. وهنا يجب الإشارة إلى الوجود العسكري الروسي في جمهورية “ترانسنيستريا” الانفصالية شرقي مولودفيا، وتحديداً تمركز ثلاث مجموعات للعمليات الخاصة في مدينة “تيراسبول”. ويُعَدّ هذا الاتجاه هو المحور الهجومي الروسي الوحيد المحتمل في الجهة الغربية لأوكرانيا.

روسيا البيضاء واتجاه هجومي جديد محتمل ضد أوكرانيا

من النقاط الأساسية، والتي يمكن اعتبارها اختلافاً جوهرياً بين الحشد الروسي الحالي وحشود آذار/مارس الماضي، دخولُ أراضي روسيا البيضاء، كمحور جديد للهجوم الروسي المحتمل على أوكرانيا، بحيث بدأت موسكو، منذ اوائل الشهر الجاري، نقلَ وحدات جوية وبرية تابعة للمنطقة الشرقية العسكرية، نحو أراضي روسيا البيضاء، بحجة إجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع جيش روسيا البيضاء، الشهر المقبل، في نطاق القسم الغربي من البلاد.

هذا التطور جعل الشكوك الغربية في احتمال تحول عمليات الحشد الروسية إلى هجوم واسع النطاق على أوكرانيا تتزايد، وخصوصاً بعد وصول سربين من مقاتلات “سوخوي-35” وقاذفات “سوخوي-35” إلى روسيا البيضاء، وظهور عدة مستجدات مقلقة لكييف فيما يتعلق بالحشد الروسي في روسيا البيضاء.

الملاحظة الأولى في هذا الصدد كانت انتشار الوحدات الروسية التي وصلت إلى روسيا البيضاء، في مقاطعات أخرى بخلاف المقاطعات الثماني، والتي من المقرر أن تحتضن مناورات الشهر المقبل، بحيث اقتربت هذه الوحدات حثيثاً من خط الحدود بين أوكرانيا وروسيا البيضاء، ووصلت إلى بلدة “يالسيك”، التي تبعد 18 كيلومتراً فقط عن الحدود.

الملاحظة الثانية تتعلق بأعداد القوات التي تم نقلها إلى روسيا البيضاء، فلقد تحدّثت نقابة السكك الحديدية في البلاد عن أن إجمالي عدد القطارات التي ستنقل معدات الجيش الروسي وأفراده المشاركين في المناورات المرتقبة، يصل إلى 200 قطار، يتزوّد كل منها بمتوسط عدد عربات ومقطورات، يبلغ 57 عربة لكل قطار، وهو ما يعني عملياً أن الكتائب الروسية، التي تم نقلها، تتراوح بين مئة ومئة وأربعين كتيبة. وهذا عدد كبير من الوحدات العسكرية، وخصوصاً لو وضعنا في الاعتبار أنه تم استخدام 46 قطاراً فقط في نقل الوحدات الروسية، خلال المناورات المشتركة بين روسيا وروسيا البيضاء عام 2017.

الملاحظة الثالثة تتعلق بعامل مهم كان ينقص الحشد الروسي السابق في آذار/مارس الماضي، ألا وهو منظومات الدفاع الجوي الذاتية الحركة، بحيث نقل الجيش الروسي إلى روسيا البيضاء، وأيضاً إلى نطاق الحدود مع أوكرانيا، عشرات وسائط الدفاع الجوي المتعدِّدة، وعلى رأسها بطاريتان من منظومة الدفاع الجوي البعيدة المدى، “أس-400″، وتم نقلها إلى روسيا البيضاء، إلى جانب منظومات اخرى، بينها منظومة “بوك-أم2″ و”بانتسير” و”أوسا”، مع ملاحظة مفادها أن الجيش الروسي دفع أيضاً بمنظومة تُعَدّ الأفضل والأحدث ضمن المنظومات المتوسطة المدى، وهي منظومة “بوك-أم3”.

منظومات الحرب الإلكترونية كانت حاضرة بصورة واضحة في المعدات التي يتم نقلها إلى الحدود الأوكرانية، وأيضاً إلى روسيا البيضاء، بينها منظومة “Borisoglebsk-2” ومنظومة “كراسوخا” التي تمت تجربتها في سوريا. اللافت هنا أن المناورات الروسية الأخيرة، في نطاق المنطقة العسكرية الغربية، قامت بتنفيذ تدريبات مخصصة للتعامل مع الطائرات القتالية من دون طيار، من نوع “بيرقدار”، عن طريق التشويش على مستشعراتها الكهروبصرية بواسطة منظومة الحرب الإلكترونية، “Palantin”، وهو ما يشي بوضوح بوعي موسكو لنقاطِ القوة التي تمتلكها كييف حالياً، وخصوصاً أن الجيش الأوكراني استخدم قتالياً هذا النوع من الطائرات للمرة الأولى في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، في قصف بطارية مدفعية ميدان تابعة لـ”الانفصاليين” في منطقة دونباس، شرقي البلاد.

التحرك الروسي في روسيا البيضاء جعل السيناريو الأقرب إلى التحقق ميدانياً، في حالة بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، هو السيناريو الذي ستشمل التحركات الروسية فيه كل الأراضي الواقعة شرقي نهر “دنيبر”، بما في ذلك المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية والشمالية الشرقية لأوكرانيا، والعاصمة كييف، وذلك عبر تحركات متزامنة من المحور الشمالي، سواء من خلال ممر “تشيرنوبل”، الذي يُعَدّ الأقصر للوصول إلى العاصمة من الشمال، أو من خلال ممرات أخرى مماثلة، يتزامن التحرك فيها مع اجتياح للمقاطعات الشرقية، إلى جانب تحرك مزدوج من شبه جزيرة القرم، بهدف خلق اتصال جغرافي بمنطقة دونباس، وتأمين منطقة سد “خيرسون”، الذي يهدد المصدر الأساسي لمياه الشرب الخاصة بشبه الجزيرة. وهذا السيناريو قد يحدث أيضاً، لكن من دون التوجه إلى العاصمة. جدير بالذكر، أن كييف قامت، منذ نحو شهرين، بنشر نحو 7500 فرد إضافي في نطاق الحدود مع روسيا البيضاء، بما في ذلك منطقة تشيرنوبل.

الخيارات الأميركية والأطلسية حيال حشود موسكو

في ظل التعزيزات الروسية المتلاحقة، يجد الرئيس الأميركي، جو بايدن، نفسه مضطراً إلى إبداء ردود فعل ميدانية، من أجل طمأنة الحليف الأوكراني من جهة، وبهدف عدم إرسال رسائل مغلوطة إلى موسكو، من جهة أخرى، مفادها أن الغرب سيقف موقف المتفرج كما حدث عندما “تم ضم شبه جزيرة القرم إلى موسكو”. المعضلة في هذا الصدد تكمن في أن الولايات المتحدة الأميركية تحاول أن تكون منضبطة في ردود فعلها، كي لا تستفز موسكو على نحو قد يدفعها إلى تصعيد الأمور أكثر في هذه المرحلة.

الأداة الأساسية، التي تمتلكها الولايات المتحدة للرد على أي تحرك روسي، هي العقوبات، فلقد حذّر بايدن القيادة الروسية أواخر العام الماضي، من أن الكتلة الغربية ستقوم بفرض عقوبات اقتصادية مشدَّدة على موسكو، في حال تطورت الأوضاع الميدانية في شرقي أوكرانيا. وحينها، قال بايدن إن هذه العقوبات ستكون أكبر وأشد من أيّ عقوبات سابقة تم فرضها على موسكو، ويمكن أن تشمل عزل روسيا عن نظام المدفوعات البنكية الدولي، وتقييد صادرات الغاز والنفط الروسية، ومنع موسكو من استلام البضائع التي تحتوي على إلكترونيات أميركية بداخلها. العقوبات الأوروبية المتاحة تدور أيضاً في فلك العقوبات الاقتصادية، سواء التي تستهدف الأفراد، أو التي تستهدف البنوك والشركات الروسية.

لكنّ هذه العقوبات – إلى جانب أنها لن تكون رد فعل مكافئاً على التحركات العسكرية الروسية في حالة حدوثها – تنطوي على خسائر أوروبية، منها ما يتعلق بحقيقة أن أوروبا تعتمد على موسكو لتأمين نحو 41 في المئة من الغاز الطبيعي، وهو ما يوفّر لموسكو وسيلة ضغط فعالة يجب أن يضعها الأوروبيون في الحسبان قبل إقدامهم على أيّ خطوة تصعيدية،  لو وضعنا في الاعتبار وجود مشاريع اقتصادية عملاقة على المحك، مثل خط غاز “السيل الشمالي 2″، الممتد من روسيا إلى ألمانيا. يُضاف إلى ذلك تهديدات موسكو المتكررة بنشر صواريخ استراتيجية عند التخوم الأوروبية، إذا تعرّضت لعقوبات جديدة. وهذا يُضاف إلى خطوات تصعيدية روسية جارية حالياً، منها تعزيز الدفاعات الروسية في القطب الشمالي، وعمليات التطوير المتسارعة للصواريخ الباليستية والجوالة الأسرع من الصوت.

على المستوى العسكري، تبدو الاستعدادات الأميركية والأوروبية منحصرة، بصورة أساسية، في دعم الجيش الأوكراني، وفي البحث في إمكان نشر وحدات تابعة لحلف الناتو في عدة مناطق في شرقي أوروبا.

يبحث بايدن في إمكان توسيع الدور الغربي في أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية، كورقة أساسية للمناورة ضد روسيا في هذا المضمار. تفعيل هذه الورقة يضمن عدة خيارات، بينها إرسال ما يتراوح بين 1000 و5000 جندي أميركي إلى أوروبا الشرقية. وهنا، لا بدّ من ملاحظة مفادها أن واشنطن لا ترغب في نشر هؤلاء في أوكرانيا نفسها، وهو ما تفهمه موسكو جيداً. وجاهة هذا المقترح تكمن في أن نشر هؤلاء الجنود، في دول مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، سيُرسل رسائل إلى موسكو تتضمّن إمكان توسيع انخراط حلف الناتو في هذه الدول، وهو ما يمثل هاجساً استراتيجياً بالنسبة إلى صانع القرار في الكرملين. وجدير بالذكر أنه ينتشر في اوكرانيا حالياً 150 مستشاراً عسكرياً أميركياً، وفي بولندا نحو 4000 جندي أميركي و1000 جندي من حلف الناتو، إلى جانب 4000 جندي من الحلف ينتشرون في مناطق متفرقة في دول بحر البلطيق.

الخطوة الأميركية الميدانية الأساسية، والتي تم اتخاذها دعماً لأوكرانيا حتى الآن، تتلخص في إقرار مساعدات عسكرية عاجلة بقيمة 200 مليون دولار. وبدأت واشنطن إرسال هذه المساعدات فعلاً إلى أوكرانيا، وتضمّنت صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات، وذخائر أخرى. كما منحت واشنطن الإذن لبعض الدول الحليفة، كي تزود أوكرانيا بمساعدات عسكرية طارئة، بحيث ستقوم إستونيا بتزويد أوكرانيا بمزيد من صواريخ “جافلين”، في حين تقوم كل من ليتوانيا ولاتفيا بتزويدها بصواريخ “ستينغر” المضادة للطائرات. ودخلت بريطانيا أيضاً ضمن قائمة الدول التي ستزود أوكرانيا بصواريخ مضادة للدبابات، بواقع 2000 صاروخ سويدي الصنع، من نوع “NLAW”.

بطبيعة الحال، لا توازي هذه القدرات والجهود الحشد العسكري الروسي الجاري منذ أشهر طويلة حول أوكرانيا، وهذا يمكن تفسيره، بما سبق ذكره، بشأن الرغبة في عدم استفزاز روسيا. يُضاف إلى ذلك وجود بعض الأصوات الأوروبية، التي تحذّر من مغبة استفزاز موسكو، وعلى رأسها ألمانيا، التي كان لكل من وزيرة دفاعها وقائد بحريتها تصريحات لافتة تتحدث عن عدم وجود فائدة تُذكَر من تسليم منظومات قتالية إلى أوكرانيا في هذه المرحلة، ناهيك برفض برلين توريد أي أسلحة تحمل مكوّنات ألمانية الصنع إلى أوكرانيا.

على المستوى الميداني، أمرت قيادة البحرية الأميركية حاملة الطائرات “يو أس أس هاري ترومان” ومجموعتها القتالية، التي تتكوّن من فرقاطة وأربع مدمّرات صاروخية، بالتمركز في الوقت الحالي في البحر المتوسط. ستشارك هذه الحاملة في التدريب البحري، “نبتون سترايك”، الذي سينفّذه حلف الناتو، حتى الرابع من الشهر المقبل، بالتزامن مع تدريب مماثل ستجريه وحدات بحرية تابعة لأسطولي بحر الشمال وبحر البلطيق الروسيين، ستجري في بحر البلطيق.

خلاصة القول مفادها أن ظلال حرب أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بين موسكو وتبليسي باتت تَلُوح في الأفق، وخصوصاً أن هذه الحرب اندلعت خلال الألعاب الأولمبية المقامة في الصين، ولعلها مصادفة ذات مغزى أن يكون تاريخ الـ20 من شباط/فبراير المقبل، هو موعد حفل ختام أولمبياد بكين الشتوية، وهو اليوم نفسه المقرر فيه انتهاء المناورات العسكرية المشتركة بين روسيا البيضاء وروسيا.

وبالتالي، يمكن اعتبار الأيام المقبلة بمثابة اختبار حقيقي لمدى قدرة كل طرف على فرض رؤيته الاستراتيجية ميدانياً، في وقت تبدو حظوظ روسيا في هذا الصدد أكبر، بالنظر إلى نجاحها السابق في شبه جزيرة القرم، والذي قد يتكرر إذا ظلت الولايات المتحدة وحلف الناتو ينظران إلى موسكو النظرةَ نفسها التي نَظَراها إلى الاتحاد السوفياتي خلال غزوه أفغانستان. فحينها، كان لصواريخ “ستينغر” دور حاسم في هزيمة السوفيات، في حين يبدو الجيش الروسي اليوم مستفيداً، بصورة واسعة، من تجربته الميدانية في سوريا، والتي تضمَّنت التعامل مع تشكيلة من الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات.

الأكيد أنه على الرغم من وجود احتمالات قوية بشأن بدء تصعيد عسكري في اوكرانيا، فإن التجارب السابقة أشارت إلى أن موسكو باتت تتّخذ من “المناورة بالقوات” وسيلةً لدفع الطرف الأخر إلى التفاوض. وهو تكتيك أفلح، في نيسان/أبريل الماضي، في إجبار الرئيس الأميركي على فتح باب الحوار مع موسكو بشأن الملف الأوكراني.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى