تأخير أم تبكير
تعلّم لغة أو لغات أجنبية في مرحلة التعليم الابتدائي، لم يعد محلّ خلاف، ولا موضوعا يطرح على طاولات النقاش، فهو أمر مفروغ منه، لكنّ الجدال لدى التربويين والمتخصصين، يتمحور حول السن الأنسب لاكتساب هذه اللغة، خصوصا الانكليزية لغير الناطقين بها، فمن أهل الشأن من يعتبر تعلّم لغة أجنبية في سن مبكرة ضرورة تحتمها ظروف عصرنا الذي تتشابك فيه المصالح ويكثر فيه اتصال الشعوب بعضها ببعض، لكن يجب أن يكون هذا مشروطا بتفرغ الطفل مدة ثلاث سنوات على الأقل لتعلم لغته الأصلية دون إدخال أي لغة أخرى حتى يتسنى ترسيخ أساسيات اللغة الأم في ذهنه، بالإضافة إلى ذلك فهذه الفترة تضمن نمو الطفل و نضجه عقليا و وجدانيا وجسميا لتقبل تعلم لغة أجنبية.
ويرى البعض أن تعليم لغة أجنبية للطفل في المرحلة الابتدائية من التعليم ضرورة حتمية، إلا أن تعليم هذه اللغة في سن مبكرة، يؤثر سلبا على اكتساب اللغة الأم و ذلك لأن مقدرة الطفل على استيعاب لغتين في وقت واحد، ليست بالمستوى الذي يسمح بذلك ، و لذا فسوف تطغى إحدى هاتين اللغتين على الأخرى.
وفي المقابل، فإنّ لبعض المتخصصين رأيا آخر يقول بأن لا خوف من تعلم الطفل لغة أجنبية ما دامت تلك اللغة تعلم كلغة ثانية، ولا تستعمل كوسيلة للتخاطب في الحياة اليومية و لا كلغة تعليم داخل المدرسة، ثم أن طفل عصر التكنولوجيا و الفضائيات وشبكات الإنترنيت، قادر على التعامل المقتدر مع أساسيات لغوية سهلة و ميسورة في اللغة الأجنبية، و أن الانطلاق الفكري و التعبيري في هذه الأخيرة لا يزاحم اللغة الأصلية شريطة أن تدرس اللغة الأصلية بأساليب متطورة ومجدية.
تبقى كل هذه الآراء المؤيدة أو المعارضة أو الموفقة بين الرأيين مجالا مفتوحا للنقاش و تبقى نتائج كل هذه البحوث نسبية و مرهونة بظروف كل بحث أو دراسة ، إلا أنه ليس بإمكاننا إنكار تلك الأدلة الواقعية الملموسة في كثير من النظم التعليمية المعاصرة التي تدرس أكثر من لغة واحدة في المرحلة الأولى من التعليم و في المناطق التي يتحدث سكانها لغات متعددة دون أن تؤثر إحداها على الأخرى سلبا و من هذه الدول يمكن ذكر الهند ، و سويسرا ، بلجيكا و كندا ودول الاتحاد السوفييتي السابق.
تعليم اللغات من كان في السابق من اختصاص اللغويين دون غيرهم، إلاّ أن الدراسات التربوية و النفسية الحديثة، فسحت المجال لعلماء النفس وأخصائيي التربية و غيرهم ــ ممن اهتموا بدراسة النمو العام للفرد و علاقته بعمليات النمو اللغوي و سيكولوجية التعلم ــ للبحث في مجال تعليم اللغات، وهو الأمر الذي أفضى إلى بروز نظريات حديثة تؤكد ” أنّ اللغة سلوك لفظي يمكن تعلمه عن طريق استثارة رغبة المتعلم كي يسلك هذا السلوك ، و أنها عبارة عن مجموعة متكاملة من الأنظمة والأصوات و التراكيب و الأنماط تختلف عن مكونات غيرها من اللغات، إلاّ أن السن التي يجب أن يستثار عندها الطفل لتعلم لغة أجنبية بقيت قضية تثير كثيرا من الجدل.
دراسات أثبتت أن النجاح في تعلم اللغة الأجنبية لا يعتمد على العمر وحده ، و إنما يتأثر بعوامل شتى منها أهداف تعليم اللغة الأجنبية و استراتيجيات التعليم ، و السن التي يبدأ عندها التعليم فضلا عن الاستعداد النفسي للمقبلين على تعلّم لغة أجنبية.
وينصح في تعلّم اللغات للكبار والصغار، بمبادئ أساسية أهمها: تنظيم الوقت وتحديده، والتعرف على القواعد النحوية بالتدريج أثناء ممارسة اللغة الجديدة، مع ضرورة التذكر بأنّ أي دورة تعليمية ليست هدفا في حد ذاته، وإنما وسيلة تساعد الفرد على التعلم.
إنّ قوة تعليم البالغين للغات تكمن في افتراضاته الأساسية و المتمثلة في كون الكبار يملكون دوافع كبيرة للتعلم وتطوير مهاراتهم الحياتية، لأنّهم يشعرون بالحاجة إلى المعرفة ويتفهمون فائدتها التي تنعكس بطريقة مباشرة على تطوير أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والمهنية، ولديهم حاجة عميقة للتوجيه الذاتي والقدرة على تحديد احتياجاتهم واهتماماتهم التي يجب أن تترجم في أهداف وبرامج ومناهج العمل المؤسسي، بحيث تدور مبادئها حول أفكار ليست فقط أكاديمية أو مهنية، بل تبدأ مع حياة المتعلم وتنظر إلى تجربته الخاصة وموارده الأكثر قيمة حيث أن تراكم المعرفة والخبرة وتطوير المهارة لدى البالغين تنعش تجربة التعلم.
يختلف الدارسون والمتخصصون التربويون كثيرا في مسألة تعيين المرحلة التي يتوجب فيها تعلّم اللغات الأجنبية، وتبدو حجج كل فريق مقنعة، وذلك بالنظر إلى الدراسات والأبحاث التي سبقتها، وبنيت على نتائجها تلك الآراء والأحكام، كما لا يجب أن نغفل عن الاستعدادات الوراثية لتعلّم اللغات، والتي تختلف من مجموعة بشرية إلى أخرى، وهي قضايا في غاية الدقة والتعقيد، وما زالت قيد دراسة من المتخصصين في العلوم الإنسانية والعلوم الصحيحة على حد سواء.