تأمل ما بعد حداثي في التقنية الرقمية
في اختصار مخلٍ تماماً، من المستطاع القول أن صعود الكومبيوتر وتبلور العوالم الافتراضيّة، ترافقا مع تغيير قوي يضجّ بالتناقضات أيضاً، في أسس عقلانيّة مشروع الحداثة وما بعدها، من دون المغامرة بالقول بالقطيعة معها. هل ذلك مكسب لمغامرة العقل الإنساني في الكون، أم أن ثمة «شيئاً ما» خرج عن النصوص من دون أن يتوصّل إلى تفكير مناسب مع العالم الجديد الذي صنعته التقنية، في الفضاء والبيولوجيا والعالم الافتراضي والنانوتكنولوجيا سويّة؟ (راجع مثلاً «الحياة» في 15 نيسان-أبريل لنموذج عن ذلك الملمح).
في القرن العشرين، لاحظ المفكّر الألماني مارتن هايدغر أن المجتمعات الحديثة ترتاح إلى تصوّر يجعل التقنية من فعل الإنسان حصريّاً، وأنها تحقِّق غايات إنسانيّة. ولم يرتح هايدغر إلى ذلك التصوّر الحداثي بامتياز، لأنه يقصر الحوار مع التقنية على مدى صلاحيتها واستعمالها بطريقة جيّدة، وذلك قول يتردّد كثيراً في أشياء كالاستنساخ وكالقنبلة الذرية والترفيه المتطوّر، ووسائل الاتّصالات السريعة وغيرها.
غياب اليقين شرطاً للمعرفة
لتقديم قراءة مغايرة، نظر هايدغر إلى التقنية باعتبارها انكشافاً بمعنى السير بالشيء من الاختفاء والغياب إلى الظهور. ولاحظ هايدغر أنّ للانكشاف أمام التقنية حدّاً آخر هو الحقيقة. ورأى أن ما ينقذ الإنسان يكمن في الخروج من التفكير في التقنية باعتبارها أداة، وفي التحاور مع ماهيتها، للوصول إلى تفكير مختلف فيها. وخلص إلى أن لا يقين في الطريقة التي يستطيع فيها الكائن الإنساني الوصول إلى وضع اليد على ماهية التقنية (وتالياً الحقيقة)، داعياً إلى الاستمرار في طرح الأسئلة لأن «التساؤل هو تقوى الفكر».
في كتابه المعروف «الكائن والزمان»، اقتبس هايدغر فكرة «مبدأ عدم التيقّن» Uncertainty Principle من الفيزياء الكموميّة Quantum Physics، التي تُنسَب إلى عالِم الفيزياء إرفينغ شرودنغر، وهي أبعد من النسبيّة التي تجذَّرت مع آلبرت آينشتاين.
فمع نسبيّة آينشتاين، اهتز العقل الرياضياتي المتكامل المرجعيّة والصارم المنهج الذي أرساه المفكر الفرنسي رينيه ديكارت (وصار أساس الحداثة)، تحت وقع تعدّد المرجعيات ونسبية علاقتها مع الحقيقة. وكذلك ارتجّت عقلانية الحداثة تحت وطأة القول أن لا يقين للوعي الإنساني، وهو ما دعمته الرياضيّات الحديثة غير التقليدية، والفيزياء الكموميّة، ونظرية الفوضى وغيرها. بالاختصار، باتت العقلانية قيد مرجعيات متعدّدة إلى حدِّ التشظي، بل أنّها متحوّلة وقصيرة المدى.
وتظهر تلك الأشياء في مفهوم الافتراضي، وهو صنيعتها تقنياً، بالمعنى الهايدغري للتقنية. هناك استدراك واجب، يأتي من تأمّل «نموذج الكومبيوتر» Computer Model. يُظهر النموذج سطوة المرجعية الرياضيّة، مع دقّتها وحتميتها، بمعنى أنها لا تقبل الخروج على صرامتها المرهفة.
في المقابل، تفيد النمذجة بأن كل ذكاء يستطيع أن يصنع نموذجه، وأنه يصعب القول مسبقاً بتفوق نموذج على آخر. بقول آخر، بقيت المرجعيات صارمة إلى حدٍّ أقصى، لكنها صارت منهكة ومتعدّدة ومتفكّكة إلى حدِّ التذرّر. وكذلك تراوغها الحقيقة بقدر ادّعائها القبض عليها. يبدو وضع الافتراضي ونموذجه، كأنه «يتجاوب» مع تأمّلات هايدغر بطريقة لم تستنفد أفقها بعد، بل لم تشرع في الظهور والتفتّح.
صحيفة الحياة اللندنية