“تاريخ للنحلة” .. تربط بين مصيري النحل والبشر

“إذا اختفى النحل من على وجه الأرض فلن يكون باقيا أمام الإنسان سوى أربعة أعوام فقط ليعيش”. تلك الجملة التي تربط بين مصيري الإنسان والنحلة منسوبة إلى ألبرت أينشتاين، وحتى لو لم يقلها العالم الأشهر إلا أن النحل يقوم بتلقيح أكثر من ثلثي النباتات، وبالتالي فإن انقراضه سيؤدي حتما لتدمير الغذاء، وبالتالي ستنتهي الحياة فوق سطح الأرض.

ولعل استعادة المقولة وترويجها يرجع إلى الفزع الذي ينتاب الكثيرين من تنامي الظاهرة المسماة “فوضي انهيار مستعمرات النحل”، أو الاختفاء المفاجىء لخلية النحل، إذ لوحظ أن العاملات يهجرن الخلية فجأة ودون سبب، وتبقي ملكة النحل وحيدة إلى أن تموت داخل الخلية، مما أدى إلى تقلص أعداد النحل في مناطق كثيرة من العالم خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

الأديبة النرويجية مايا لونده من الناشطات في مجال البيئة وأصابها نفس الهلع على مصير النحل فكتبت عنه رواية، صدرت طبعتها الأولى في النرويج في العام 2015 بعنوان “تاريخ للنحلة”، وكان الكتاب الأكثر مبيعا فحصلت عنه على جائزة النرويج لاتحاد بائعي الكُتب، والرواية هي أول عمل للكبار لمؤلفتها المتخصصة في الكتابة للأطفال والناشئين، وقد لاقت رواجا واهتماما كبيرين فتعددت طبعاتها وترجماتها، وأخيرا نقلها إلى العربية المترجم الأردني علاء الدين أبو زينة، وصدرت عن “دار المنى” في السويد، في 496 صفحة تحت عنوان “حين اختفى النحل”، فيتوقف بنا عند اللحظة الأكثر رعبا “حين يختفي النحل” ليبدأ العد التنازلي لاختفاء الإنسان نفسه.

تختار الكاتبة مكانا ما في الصين، وتحدد الزمن بأنه عام 2098، و تروي على لسان “تاو” وهي أم صينية فقدت ابنها، تبدأ حكايتها بتحديد مكانها فوق أحد الأغصان: “مثل طيور ضخمة توازنت كل واحدة منا على غصنها، ومع كل منا دلو بلاستيكي في يد، وفرشاة من الريش في الأخرى”، تخبرنا أنها والنسوة يعملن ملقحات صناعيات للزهور، يقمن بعمل النحل المنقرض، ذلك هو الإجراء الذي تتخذه السلطات الصينية لمواجهة شبح الجوع القادم حتما إذا لم يتم تلقيح النباتات، والنسوة يعملن لإثنتي عشرة ساعة يوميا حتى تضمن قوت يومها، وهو شحيح لدرجة أن الأرز يوضع في الأطباق بالحبة، والوجبة قد تكون ثلاث حبات من الأرز، أما الأشجار فهي أيضا على وشك الموت “كانت الأشجار قديمة قدم الحياة، والفروع هشة مثل الزجاج الرقيق، تتصدع تحت ثقلنا”.

تحكي تاو أن النحل اختفي من منطقتها بفعل التلوث مع ثمانينيات القرن العشرين، ففكرت السلطات في التلقيح الصناعي، الذي يحتاج “عددا هائلا من الناس، وعددا لا يصدق من الأيدي” لكنه حقق نتائج إيجابية خلال مائة عام قبل بدء حكايتها في العام 2098 “كنا أمة رائدة في التلوث وأصبحنا أمة رائدة في التلقيح الاصطناعي باليد، كانت المفارقة التي أنقذتنا” فهم رغم ما يواجهون من صعوبات مازالوا أحياء، بينما في أماكن أخرى من العالم انتهت الحياة.

وإلى أماكن وأزمنة أخرى يأخذنا النحل، ترتد مايا لونده في الفصل الثاني إلى العام 1852، في إنجلترا حيث “وليام” الأب لسبعة أبناء، وهو عالم أحياء لكن الأفواه السبعة تدفعه لتأجيل طموحاته العلمية، ويفتتح محلا لبيع البذور ثم يعمل مربيا للنحل، ويفتتح مشروعا لبيع العسل، ويظل يبتعد عن حلمه الأصلي، فيصاب بالاكتئاب، ويواصل الفصل الثالث طيرانه بين الأزمنة والأمكنة، ويحط في أوهايو الأميركية لنلتقي بجورج، وهو مربي نحل يعاني من آثار الموجة الأولى لظاهرة “فوضي انهيار مستعمرات النحل”. يبذل جهدا كبيرا للحفاظ على النحل لكنه يرفض اتباع التقنيات الحديثة التي تهدف إلى تبسيط عملية تربية النحل. كذلك بخيبة أمل في ابنه توم، الذي رفض الالتحاق بمهنة الأب مفضلا الحصول على الدكتوراه.

هكذا يربط النحل وأزيزه بين القصص الثلاثة رغم أن الفاصل الزمني بين أقدمها وأحدثها يصل لمئتين وخمسين عاما، وتتواصل الحكايات وتترابط معا، ففي العام 1852، كان النحل مزدهراً ووفيراً، ويستغل وليام إمكاناته العلمية في تصميم صندوق أو خلية جديدة تساعد النحل على التكاثر وزيادة إنتاج العسل، وهو الصندوق الذي تحمله ابنته شارلوت معها حين تهاجر إلى الولايات المتحدة، حيث يعمل أبناؤها وأحفادها جيلا بعد جيل في تربية النحل، وفي نهايات القرن العشرين يواجهون كارثة فوضي انهيار مستعمرات النحل، ومثلهم جورج الذي يعود للطرق القديمة في تربية النحل ويبني خلاياه بيده، ويستورد نحلا من الخارج لكن يكتشف أن النحل المستورد غير نقيّ مما يزيد من مشاكله المالية فيقترض من البنوك، ويؤجر النحل وخلاياه للمزارعين الذين يحتاجونه لتلقيح محاصيلهم، فتضاف مخاطر النقل إلى مخاطر التلوث، فيواصل النحل اندثاره، فيحاول العلماء الإنجليز إنتاج نباتات معدلة وراثياً، وكانت النتائج مبشرة فاتبع العالم كله تلك الطريقة، لكن موت النحل يتواصَل.

ربما يكون جورج الأميركي واحدا من أحفاد وليام، لكن المؤكد أن حفيدا آخر له هو توماس يحاول بالعلم مواجهة الكارثة فيؤلف كتابا بعنوان النحال الأعمى ينشره في العام 2037 ، وتقرأه فيما بعد تاو الصينية فيساعدها في اكتشاف وسيلة لاستعادة النحل.وأعتقد أن الكاتبة كانت موفقة حين بدأت روايتها بقصة تاو فهي التي تلي الكارثة، وبالتالي تضعنا مباشرة في مواجهة آثارها، ثم ترتد في الزمن باحثة عن الأسباب التي أدت إلى ما حدث، وهي تدين البشرية كلها لذا توزعت قصصها بين أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة، ورغم أن الرواية يمكن أن ندرجها ضمن موجة انتشرت في الغرب مؤخرا، حيث يهتم الأدباء بمعالجة قضايا بيئية ومناخية إلا أن مايا لونده تميزت بعدم اقتصارها على التحذير من كارثة بيئية وشيكة، فهي لم تهمل العلاقات الإنسانية في القصص الثلاثة، وهو ما يشكل رباطا ثانيا بين القصص لإضافة إلى النحل.

تاو على العكس من زوجها كوان تحاول توفير فرصة أفضل تعليم ممكن لابنهما وي- ون لذا تحدث بينهما خلافات كثيرة سرعان ما تتزايد بعد اختفاء الابن ومحاولاتها للعثور عليه، وعلى العكس منها نجد وليام الذي يصاب بالاكتئاب لأن واجباته الأسرية أبعدته عن طموحاته العلمية الشخصية، كذلك جورج الذي أراد لابنه أن يكون تابعا له وطالبه بأن يترك الجامعة ليتفرغ لمساعدته في تربية النحل، يطالب ابنه بأن يضحي بمصلحته الذاتية من أجل الأب ويشبه الأسرة بالخلية حيث، “كانت كل حشرة صغيرة تابعة للخلية الأكبر”، فعدم تفهمه لطبيعة ابنه تماما كعدم تفهمه للطرق الحديثة في تربية النحل، كان لهما نفس الأثر التدميري على الخلية وعلى الأسرة معا.

أما وليام فكما وصفه حفيده في كتاب “النحال الأعمي” لا تسمح له أنانيته بالاعتراف بأن “حياة، أفكار، مخاوف، وأحلام شخص واحد لا تعني شيئًا إذا لم تنطبق علينا جميعًا فالمصلحة الذاتية وحدها يمكن أن تؤدي إلى كل من التدمير الشخصي والعام” ربما لذلك نجحت تاو نسبيا حتى وإن لم تعثر على ابنها إلا أنها شاركت في الحفاظ على الحياة.
هكذا تدعو الرواية إلى ضرورة وجود نمط حياة يؤثر الجماعية، كما يفعل النحل منذ يوم مولده إلى اليوم الذي يموت فيه. (خدمة وكالة الصحافة العربية)

ميدل ايست اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى