تاريخ من مسيرة «عمليّة السلام» الأميركيّة: عن «منع فلسطين» [٢]
bidi;} .MsoPapDefault {mso-style-type:export-only; margin-bottom:8.0pt; line-height:107%;} @page WordSection1 {size:8.5in 11.0in; margin:1.0in 1.0in 1.0in 1.0in; mso-header-margin:.5in; mso-footer-margin:.5in; mso-paper-source:0;} div.WordSection1 {page:WordSection1;} –>
يُمعنُ الكاتب سِث أنزيسكا في كتابه «منع فلسطين» في تجميل صورة كارتر (القبيحة) عبر المبالغة في تقدير أبعاد مبادراته وسياساته وتصريحاته. ينسبُ إليه فضل المبادرة بوضع «بذور» (ص. ٣٢) فكرة (لا) حل الدولتيْن عندما وضعت وزارة الخارجيّة الأميركيّة في أوائل عام ١٩٧٧ أفكاراً (لم تعلنْها) لحل الصراع العربي-الإسرائيلي. الأفكار تلك لم تعترف للشعب الفلسطيني بحق الدولة بل هي استعملت مصطلح «الوطن» المرتبط بالنظام الأردني المُطيع. وكارتر نفسه علّق على وثيقة وزارة خارجيّته بالقول إنها «تطلب الكثير من إسرائيل». أي إن اللادولة المرتبطة بالنظام المتحالف مع إسرائيل هي أكثر مما يستحق الشعب الفلسطيني. وحرص وزير الخارجيّة سيروس فانس على طمأنة إسرائيل فوراً إلى أن الانسحاب من الأراضي المحتلّة يعني – له ولإدارته – «حدوداً يمكن الدفاع عنها»، أي إن أميركا لا تتوقّع من إسرائيل انسحاباً تاماً من أراضي ١٩٦٧. صحيح أن الحكومة الإسرائيليّة (قبل صعود «الليكود» في عام ١٩٧٧ وبعده) لم تكن راضية عن كارتر لأنها لا تريد أي حلّ للصراع ولو كان مؤاتياً لها. هي اعترضت بشدّة على خطاب شهير لكارتر في آذار ١٩٧٧ عندما قال إنه «من الضروري أن يكون هناك وطنٌ للاجئين الفلسطينيّين الذين عانوا على مدى سنوات عديدة». لكن هذه الإشارة كانت أقلّ في الإنكليزيّة مما تبدو في الترجمة العربيّة لأن كارتر حرص على استعمال مصطلح («هوملاند») لا وجود له في القانون الدولي ويمكن أن يكون وجوده غير مُتناقض مع وجود دولة تسود فوقه (المصطلح هو نفسه الذي ورد في تقرير مؤسّسة «برونكز» عام ١٩٧٥).
وبالتوازي مع مساعي الإدارة الأميركيّة في عهد كارتر لمساعدة الاحتلال الإسرائيلي عبر تشريعه في صفقة سلام شاملة، كان كارتر قد أولج إلى فريق مساعدين نافذين مهمة الاتصال المستمرّ مع الجالية اليهوديّة الأميركيّة لطمأنتهم حول نيات كارتر الصهيونيّة. طبعاً، لم ترَ تلك الإدارة ضرورةً للتواصل مع الجالية العربيّة الأميركيّة. لكن الغضبة في أوساط الجالية اليهوديّة تنامت وحاول كارتر توضيح مواقفه بالقول إنه «لم يدعُ يوماً لبلد فلسطيني مستقل»، وإنه لو كان هناك «تأسيس لكيان فلسطيني في الضفة الغربيّة فإنه يجب أن يرتبط بالأردن». والذي زاد ابتعاد كارتر عن أفكاره حول القضيّة الفلسطينيّة هو حثّ أنور السادات والملك حسين له كي يقترب أكثر من العدوّ الإسرائيلي. الملك حسين قال لكارتر: «منظمّة التحرير هي مخلوق القمم العربيّة، وليس اختيار الشعب الفلسطيني» (ص.٤٦).
وبلغ خوف كارتر من الغضب الصهيوني ضد إدارته، خصوصاً بعد صعود «الليكود»، إلى درجة أنه كذب على مناحيم بيغن في أوّل لقاء لهما عندما قال إنه ليس للإدارة أي خطة لإقامة وطن فلسطيني (ص.٥٨). أي إن الإدارة الأميركيّة لم تكن تقدّم مواقفها في الشرق الأوسط على مشاعر الاحتلال الإسرائيلي وعلى مصالح كارتر الانتخابيّة. وكان كارتر صارماً في التزامه قرار هنري كيسنجر في مفاوضات سيناء ٢ عندما ألزم الإدارات الأميركيّة رفض أي تواصل أو لقاء مع «منظمّة التحرير» ما لم تقبل وجود إسرائيل وتقبل قرار ٢٤٢ وتنبذ الإرهاب (زادت الشروط الأميركيّة صرامةً، إلى أن فرضت إدارة ريغان على ياسر عرفات قراءة نص بالإنكليزيّة (أرسلوه له عبر «تلكس») كي يكون إعلانه ملتزماً حرفيّاً أجندة اللوبي الإسرائيلي (وفي موقف يقبّح تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، قرأه عرفات متلعثماً كما هو، بعد أن فشل في إرضاء الإدارة الأميركيّة في قراءة نص من عنده قبل ذلك). لكن بيغن قطع الطريق على كارتر في بحثهما حول تمثيل الفلسطينيّين عندما فاجأه بالقول: «نحن أيضاً فلسطينيّون» (ص. ٦٠).
ويطلع القارئ باستنتاج أن أنور السادات فعل في تفاوضه مع الإسرائيليّين ما فعله ياسر عرفات في مسيرة أوسلو المشؤومة، إذ قرّرَ أن يتفاوض مباشرة مع الإسرائيليّين من دون أي دور أميركي أو عربي ولذلك للإسراع في عمليّة التفاوض ولتقديم التنازلات بسرعة شديدة. وكما أن السادات تعهّد للإسرائيليّين بأن «اتركوا الفلسطينيّين لي»، فإن عرفات تعهّد بـ«اتركوا أمر المقاومة لي». ولم يكن عرفات غائباً عن مسيرة «السلام» الأميركيّة في كل هذه السنوات التي يغطّيها الكتاب، إذ لم يتوقّف عن إرسال الإشارات والرسائل والوعود إلى الإدارات الأميركيّة المتعاقبة، معتمداً على أكثر من رسول لتكثيف إبداء الودّ نحو الراعي الأوّل للعدوّ الإسرائيلي. ويتضح من التقارير الأميركيّة عن مساعي عرفات للانضمام إلى «مسيرة السلام» الأميركيّة أن قيادات «فتح» هي التي منعت عرفات من الانضمام، لا اعتراضاته. وعمليّة أوسلو وما تلاها من تنازلات جمّة من «منظمّة التحرير» لم تكن ممكنة من دون سلسلة من اغتيالات إسرائيليّة لقيادات في «فتح» وغيرها من التنظيمات. واعتماد عرفات الكلّي (ماليّاً) على أنظمة الخليج جعله هدفاً سهلاً للاستغلال بعد ١٩٩٠، عندما قطعت أنظمة الخليج المعونات عنه وقاطعته عقوبةً له على تأييده صدّام حسين. وكان واضحاً من متابعة رواية انزيسكا عن تاريخ المفاوضات أن عرفات كان – كما أدركَ ذلك معارضوه منذ السبعينيات – ينطق بلسانيْن: يدين الإمبرياليّة في خطبه العالية النبرة بالعربيّة، وكان يسترضي كل إدارة أميركيّة في مفاوضات سريّة.
كانت إدارة كارتر تتلاعب مع عرفات (في المفاوضات السريّة التي قادها وليد الخالدي مع سيروس فانس)، إذ لم تكن تكتفي بشرط قبول عرفات دويلة في الضفّة والقطاع بل تصرّ على إعلان رسمي بقبول قرار مجلس الأمن ٢٤٢ (الذي لم يذكر الفلسطينيّين). وعندما طالب الخالدي بوعد الاعتراف بدولة، لم تقدّم الإدارة الأميركيّة إلا وعد «تقرير المصير» (ص. ٨٢) الذي كانت تشرح للإسرائيليّين أنها لم تعنيه إلا منقوصاً (ومرتبطاً في تطبيقه بالنظام الأردني). لكن عرفات لم يكن مستقلاً تماماً في خياراته التسوويّة إذ كان عرضة لضغوط هائلة من النظام السعودي والمصري والاتحاد السوفياتي (يقول إنزيسكا إن النظام السوري وحده كان يدفع باتجاه معاكس، ص ٨٣). والحوار غير المباشر بين عرفات وكارتر (عبر رئيس جامعة إيرلام) لم يكن أكثر نفعاً من مفاوضات الخالدي، إذ إن إدارة كارتر تملّصت من وعودها وراوغت في تحديد شكل ثمار مشاركة «منظمة التحرير» في مؤتمر جنيف.
لكن قرار السادات زيارة الكيان المحتل أفشل الجهود الأميركيّة في التحضير لمؤتمر تسووي، وضيّق نطاق المناورة التي كان عرفات يجيدها، وإن من دون جدوى أو منفعة للقضيّة. والزيارة كانت في جانب منها إصراراً من السادات على احتكار العلاقة مع حكومة العدوّ من دون المرور عبر واشنطن، ومن دون الحاجة إلى ربط المفاوضات الثنائيّة بتسوية ما مهما كانت مجحفة للقضيّة الفلسطينيّة. وكان دايان على حق في شرحه للسفير الأميركي أنه لم يعد هناك من يسعى إلى مؤتمر جنيف إلا «سوريا والروس ومنظمّة التحرير» (ص.٩٦) واعترف السادات نفسه للسفير الأميركي، هيرمن إيلتس، بعد عوته من القدس المحتلّة أن فكرة «الدولة الفلسطينيّة لا تروق لبيغن أو وايزمان». وعليه، فإنه السادات نصح بالعمل على أفكار بديلة، بما فيها جعل غزة «مركز الثقل» في الكيانيّة الفلسطينيّة المنشودة، على أن يَقتطع جزءاً من سيناء كتعويض عن الضفة الغربيّة. وهذا الرضوخ من السادات، معطوفاً على ضعف الموقف الأميركي، شجّع مناحيم بيغن على الترويج لأفكار جديدة على نسق الحكم الذاتي المحدود والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تجميع نفاياته وإدارة السير في الشوارع. ولقيت أفكار بيغن تشجيعاً من رئيس الحكومة البريطاني، جيمس كالاهان، ومن المسؤولين الأميركيّين (السابقين والحاليّين).
لكن حقيقة موقف الإدارة الأميركيّة ظهر في مذكّرات سايروس فانس نفسه، إذ اعترف أن الإدارة كانت تكذب على المفاوضين الفلسطينيّين. هو قال إن «الرئيس وأنا شاطرناهم (أي الإسرائيليّين) مخاوفهم حول دولة فلسطينيّة راديكاليّة»، وإن مرحلة انتقاليّة تكون ضروريّة «كي يثبتَ الفلسطينيّون أهليّتهم لحكم أنفسهم بأنفسهم ويعيشون بسلام مع إسرائيل». (فانس، «الخيارات الصعبة»، ص. ١٨٧). لا، بل إن فانس أفصح في كتابه أنه كان يفضّل وضع «انتداب من الأمم المتحدة تحت إدارة إسرائيليّة-أردنيّة». على هذا الانتداب المُهين، كان ياسر عرفات يفاوض بحماسة مع الإدارة الأميركيّة، ومن أجله، قدّم ياسر عرفات كل أوراق القوّة لـ«منظمّة التحرير» في المسيرة التي أدّت إلى اغتياله من حكومة العدوّ، بموافقة أميركيّة أكيدة. وهذه العقليّة الاستعماريّة هي التي يراها المؤلّف نتاجاً لحرص كارتر على حقوق الإنسان.
ولا شكّ أن تزامن الخيار الإسرائيلي للسادات عزّز الموقف المتصلّب لحكومة العدوّ وأعطى الذرائع للحكومة الأميركيّة من أجل أن تتنصّل من التزامات ووعود كانت أعطتها علناً وسرّاً لقيادة المنظمّة. وفي محاضر اجتماعات السادات مع بيغن، يتضح أن السادات لم يكن يختلف في الجوهر مع الموقف الصهيوني لحكومة العدوّ. هو أخبر بيغن أثناء زيارته مصر في كانون الأول ١٩٧٧ أنه لم يكن يؤيّد كيانيّة فلسطينيّة استقلاليّة وأنه دوماً يفضّل «ربطاً ما» مع النظام الأردني. وانزيسكا على حق في استنتاجه أن التنازل الساداتي ساهم في إضفاء المزيد من التصلّب على الموقف الإسرائيلي في المفاوضات اللاحقة (ص.١٠٨). وكان المفاوضون الإسرائيليّون والمصريّون يسخرون من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ولخّص دايان ما سمع عندما قال إن «كلا الطرفيْن لا يريد دولة فلسطينيّة». ولعلّ السادات أثلج قلوب المفاوضين الإسرائيليين عندما كان يعبّر عن اعتراضه ومعارضته لقيادات «منظمّة التحرير». هو قال لهم: «هناك عرفات وهناك المتعصّب حبش الذي أعلن نفسه ماركسيّاً-لينينيّاً» (ص.١٠٨). وهذا ما عناه المؤلّف عن أن زيارة السادات إلى القدس، مهما كانت دوافعها، شكّلت عقبة أساسيّة أمام المنظمّة (ص.١١٥).
لم تكن مفاوضات كامب ديفيد إلا تسليماً أميركيّاً رسميّاً بانتصار موقف الحكومة الإسرائيليّة من فكرة حل الصراع. نجحت حكومة العدوّ في خطتها التي لم تحد عنها منذ ١٩٤٨ بتجزئة ملفّات الصراع كي تستفرد بالدول العربيّة وتضعف الموقف الفلسطيني. والمفارقة أن السادات اختار أن ينصرَ العدوّ في وقت كانت الخلافات فيه بين قادة المنظمّات الصهيونيّة الأميركيّة، وبين حكومة العدوّ، قد وصلت إلى حدٍّ لم تبلغه قبل ذلك، أو مذّاك. لكن لا يمكن إهمال عامل ضعف الموقف السوفياتي بصورة عامة في الصراع مع أميركا، وفي التمسّك بحلّ منصف للشعب الفلسطيني. اكتفى برجنيف في رسالة إلى كارتر بالتعبير عن استياء الاتحاد السوفياتي من تسوية كامب ديفيد التي لم يكن لها علاقة البتّة بـ«المطالب المشروعة للشعب العربي في فلسطين»، حسب صياغة برجنيف. لكن برجنيف اكتفى بهذه الرسالة من دون أي تغيير جذري في موقف الدولة الكبرى في الشرق الأوسط. وتزامن كل ذلك مع انصباب جهود فريق كارتر على إعادة الانتخاب، وانعكس ذلك على تعيين الصهيوني الأميركي روبرت ستراوس في منصب المبعوث الرئاسي إلى الشرق الأوسط.
وإذا كان كارتر قد تخلّى عن وعود إدارته للشعب الفلسطيني لمصلحة «الليكود» وحملة كارتر الانتخابيّة، فإن رونالد ريغان أراد أن يمثّل عكس ما مثّله كارتر في كل الملفّات (كما أن دونالد ترامب يريد أن يكون عكس باراك أوباما). ومن جملة اعتراضات ريغان على كارتر أنه باع إسرائيل في مفاوضات السلام. هذا كان بمنزلة إطلاق يد إسرائيل في المنطقة العربيّة، خصوصاً أنها ضمنت تنصّل مصر من أي مسؤوليّة عربيّة في ما خصّ قضية فلسطين. لم يعد للإدارة الأميركيّة الجديدة مشروع حل، ولم يعد لأي إدارة أميركيّة مذّاك أي مشروع حلّ، على سوء (وخداع) مشروع حل إدارة كارتر. إن اجتياح لبنان عام ١٩٨٢ كان تتويجاً لاستفادة إسرائيل من حظوتها في نظر الإدارة الجديدة التي رأت في عدوان إسرائيل تحديّاً مناسباً ضد الاتحاد السوفياتي. وإذا كان الحق الفلسطيني اليوم في النظر الأميركي مجرّد إفراز للإرهاب الديني المتطرّف، فإن هذا الحق كان آنذاك مجرّد إفراز للإرهاب الشيوعي العالمي.
وفي القسم اللبناني (في الفصل السادس من الكتاب)، يعتد المؤلّف بأنه حصل على الملحق السرّي لتقرير لجنة كاهان. لنوضّح: لا، لم يحصل أنزيسكا على الملحق السرّي للجنة كاهان. ما حصل عليه هو ما سمحت حكومة العدوّ بمدّ لجنة دفاع مجلّة «تايم» (في الدعوى الشهيرة التي أقامها أرييل شارون ضد المجلّة لاتهامها له بالتورّط في مجزرة صبرا وشاتيلا) به. إن نظام المراقبة العسكريّة الإسرائيليّة لا يختلف في تقتيره وصرامته وتزمّته عن نظام المراقبة العربيّة مع أن الحكومة تزهو بأنها تنشر بعد ثلاثين سنة على مرور الحوادث. لكنها تختار ما تريد نشره ولا تنشر ما تنشره كاملاً. هي لا تزال مثلاً تحمي هؤلاء العرب الذين كانوا يتلقّون الدفوعات منها على مرّ العقود. قرَّرت الحكومة الإسرائيليّة ما تريد أن تسمح باطلاع لجنة المحامين عليه، وهي حتماً لم تمدّهم بكل نصوص الملحق السرّي. لكن ما حصل عليه أنزيسكا يكفي لتكرار عدد من المسائل حول تلك المسائل المتعلّقة بتلك الجريمة المرّوعة. إن اطلاع المؤلّف على الوضع اللبناني فقير، وهو يعاني من حساسيّة صهيونيّة في أحكامه على مجريات الحرب، تماماً مثل أحكامه على أعمال العنف السياسي للمنظمات الفلسطينيّة؛ هو مثلاً يصف فقط معركة الدامور (وهي معركة لمن درسَها وعاشها) بـ«المجزرة السيّئة الصيت» (ص. ١٩٩). هو حتماً جاهل بما جرى هناك (خصوصاً من ناحية الاستفزازات الكتائبيّة التي بدأت تلك المعركة، التي توجّبَ الردّ عليها بسبب قطع الطريق الساحليّة، وإن شاب ختامها أعمال إجراميّة بولغ فيها كثيراً في الدعاية الإسرائيليّة-الكتائبيّة) خصوصاً أنه لم يستعمل وصف «السيئ الصيت» في كتابه إلا في حالات النازيّة ومجزرة دير ياسين وتنظيم أبو نضال. كيف يمكن مقارنة جريمة حرب مقصودة ضد مدنيّين في دير ياسين مع معركة عسكريّة في سياق حرب أهليّة؟ كما يعتمد في تلخيصه للحرب على رواية معادية للشعب الفلسطيني وينسب كلاماً عنصريّاً ضد الشعب الفلسطيني إلى موسى الصدر معتمداً على رواية فؤاد عجمي وكريم بقرادوني (ص.٣٧٠).
لكن هناك في القسم الذي نشره أنزيسكا من ملحق «كاهان» ما يفسّر الإشارة إلى الدامور والضجّة حولها. لقد حثّ الفريق الإسرائيلي الفريق الكتائبي غب ضوء الضجّة حول مجزرة صبرا وشاتيلا في صيف ١٩٨٢ بإثارة «مجزرة» الدامور كرد دعائي على مجزرة صبرا وشاتيلا. يمكن رصد بداية تضخيم ما جرى في الدامور إلى ذلك الاجتماع بين قادة إرهاب العدوّ، وبين عملائهم في الميلشيا الكتائبيّة. أعطوا أمرهم لهم باستغلال القصّة لأسباب دعائيّة. قبل ذلك التاريخ في ١٩٨٢، كانت الدامور واحدة من المعارك التي دارت فيها حرب أهليّة، ولم تكن صفة المجزرة تلتصق بها كما التصقت آنذاك بمجازر أعوان إسرائيل في ضبيّة وتل الزعتر وجسر الباشا والكارنتينا والنبعة وحي الغوارنة والسبت الأسود، وغيرها من المجازر وجرائم الحرب التي أهّلت بشير الجميّل لقيادة ميليشيات إسرائيل في لبنان.
ومن مطالعة الصفحات التي نشرها أنزيسكا من الملحق السرّي لتقرير «كاهان» تتوضح حقائق لا لبس فيها أبداً: ١) فات المؤلّف أن محاضر اجتماعات بشير الجميّل مع شارون (التي نشرها جورج فريحة في كتابه «مع بشير») أثبتت بما لا يقبل الشكّ أن المجازر (في صبرا وشاتيلا وفي كل مخيّمات لبنان وفي منطقة الفاكهاني) كان معدّاً لها من الطرفيْن (ص.٢٢٣)، ٢) يتضح من ملحق «كاهان» أن قيادة جيش العدوّ والاستخبارات لم تكن تنظر إلى الميلشيات الانعزاليّة إلا كأدوات لها، ولم تكنّ لها أي تقدير أو احترام، ٣) خطة العدوّ وبشير الجميّل كانت واضحة في مراميها الطائفيّة (غير الوطنيّة)؛ يقول تقرير «كاهان» إن إسرائيل هي التي أعدّت خطة صعود الجميّل عبر السنين لوضع لبنان «تحت سيطرة مسيحيّة»،. ٤) إطلاق يد الميلشيات الانعزاليّة في المخيّمات حاز مواقفة الحكومة الإسرائيليّة، ٥) لم يكن العدوّ ينظر بعين الإعجاب إلى الأداء العسكري للميلشيات اليمينيّة، وهذا طبعاً ناتج عن أدائهم في فصول الحرب. إن سمعة بشير الجميّل العسكريّة كانت من تصنيع دعاية «الموساد»؛ لم ينتصر في أي من معاركه، إنما كان قويّاً بحكم تلقّيه دعماً هائلاً من إسرائيل ودول الغرب وبعض دول الخليج. أما في المعارك، فهُزمت قواته في الفنادق والدامور وزحلة وعيون السيمان وحرب الجبل (وفي شكا استعان بالجيش الانعزالي يومذاك). لم ينتصر بشير الجميّل «عسكريّاً» إلا في: أ) معاركه ضد خصومه في المقلب الشرقي من بيروت، ب) ارتكاب المجازر التي تفنّن فيها بالقتل والتمثيل بالجثث وقتل المدنيّين واغتصاب النسوة، ٦) عندما كان حزب «العمل» يعيّر «الليكود» بمجزرة صبرا وشاتيلا، كان الأخير يردّ بسهولة أن الميلشيا اللبنانيّة-الأداة الإسرائيليّة ارتكبت مجازر في تل الزعتر وغيرها أثناء رعايتهم من «العمل». ٧) فليتوقّف الجدال حول دور إيلي حبيقة: ليس من شك أنه كان مجرم حرب قبل صبرا وشاتيلا وفيها، وأنه قاد الجزّارين في أيام المجازر بعد إعدام بشير الجميّل. إن إنعاش حبيقة من رفيق الحريري وعبد الحليم خدّام (والنظام السوري وحلفائه في لبنان) لا يمكن أن يمحي تاريخ حبيقة الدموي ٨) يتأكد مرّة أخرى حجم أكاذيب جوني عبده الذي لا يزال يزعم أنه لم يكن يلتقي شارون عندما كان يستضيفه في منزله، إذ إن ملحق «كاهان» يظهر أن عبده والجميّل كانا ضيفيْن في مزرعة شارون في النقب، ٩) صحيح أن ريغان استاء من مجازر إسرائيل أثناء حصار بيروت لكن ذلك لم يؤدِّ إلى إحداث ضرر في العلاقات الأميركيّة-الإسرائيليّةـ ١٠) كانت عائلة الجميّل (بيار وأمين وبشير) ذليلة ومطيعة في تعاطيها مع الراعي الإسرائيلي. يقول جوزيف أبو خليل لقائد عسكري إسرائيلي: «أخبرنا ماذا تريد وسنعمل على تنفيذه». هكذا كان خطاب فريق السيادة والاستقلال.
إن هذا الكتاب يسدّ بعض الثغرات في رواية مسيرة «السلام» الأميركيّة. لكن يجب أن تتشكّل الرواية لا للمطالبة بإنعاش عمليّة «السلام»، وإنما لدفنها إلى الأبد، ومراكمة التراب فوقها.
صحيفة الأخبار اللبنانية