تحليلات سياسيةسلايد

تحذيرات أميركية من انهيار السلطة: الضفة تبتكر أساليب للمقاومة

لا تكاد مدينة جنين تغيب عن دائرة الأحداث لبعض الوقت، حتى تعود ثانية لتتصدّر المشهد الميداني المُقاوم في الضفة الغربية المحتلّة. وفي الحقيقة، فإن ذلك لا يُعدّ غياباً، إذ يتخلّله طوالَ الوقت تربّصٌ من قِبَل قوات الاحتلال بالمقاومين، وفي المقابل استعدادات متواصلة من قِبَل الأخيرين، في معركة كرّ وفرّ لا تنتهي. وفي أقلّ من 12 ساعة، كانت محافظة جنين مسرحاً لعمليات إسرائيلية بدأت مساء الأحد، بتوغّل قوّة خاصة داخل بلدة جبع، حيث اكتشفها المقاومون سريعاً، واستهدفوا عناصرها بشكل مباشر، ما دفَع جيش الاحتلال إلى استقدام تعزيزات عسكرية إلى المكان. وتشهد جبع، الواقعة على الطريق الرئيس بين مدينتَي جنين ونابلس وتَبعد عنهما 20 كيلومتراً، والتي خَلدت في كتب الثورة بمعركة ذات شهرة في تاريخ فلسطين بين المجاهدين الفلسطينيين والإنكليز خلال فترة الانتداب، منذ أسابيع، عمليات إطلاق نار ضدّ جنود الاحتلال، توازياً مع بروز «كتيبة جبع» كخلية للمقاومة.

ولم تمضِ سوى ساعات قليلة على اقتحام جبع، حتى سُجّل انفجار مركبة، فجر الإثنين، قرب مفرق قرية كفيرت التي تَبعد 10 كلم غربي جنين، من دون أن يسفر ذلك عن وقوع إصابات. وأثارت الواقعة مخاوف المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية من أن تكون المركبة مفخَّخة ومجهَّزة للتفجير ضدّ جنود الاحتلال، وهو ما لم يحدث منذ سنوات. وأفاد موقع «0404» العبري، صباح أمس، بأن «المؤسّسة الأمنية تأكّدت من أن المركبة التي انفجرت قرب جنين كانت مفخَّخة بعبوات ناسفة وأسطوانات غاز وتمّ تفجيرها عن بعد»، مضيفةً أنه عُثر على «أنبوبتَي غاز لم تنفجرا في السيارة، وكذلك مواد متفجّرة وأسلاك على ما يبدو استُخدمت لتفجير السيارة عن بعد، بالإضافة إلى راية للجبهة الشعبية». وذكر مصدر في جيش الاحتلال، من جهته، أن «الهجوم لم ينجح بأعجوبة، حيث انفجرت السيارة في بداية رحلتها. لا شكّ في أنه تمّ تفادي كارثة كبيرة الليلة».

ومع ساعات صباح الإثنين، شهدت مدينة جنين اشتباكات مسلّحة بين المقاومين وقوات الاحتلال، بعدما اقتحمت الأخيرة المدينة وحاصرت أحد المنازل في حيّ الهدف وأطلقت في اتّجاهه الرصاص الكثيف وقنابل «الإنيرجا»، مُستهدِفةً المطلوب راتب البالي. وامتدّت المواجهات، التي استَخدم فيها المقاومون الرصاص والعبوات المتفجّرة، إلى شارع حيفا ومواقع أخرى، واستشهد خلالها الفتى محمود السعدي أثناء تَوجّهه إلى مدرسته. وبعد ذلك بساعات، تعرّض جنود العدو المتواجدون على مفرق كفيرت، لإطلاق نار مكثَّف من قِبَل مقاومين. وتنسحب حالة المدّ والجزر على باقي مناطق الضفة الغربية، حيث باتت هذه الحالة السمة البارزة للمقاومة المسلَّحة الناشئة نظراً إلى ظروف الميدان، وإنْ أصبحت وقائع الاشتباك بالحجارة والعبوات الحارقة شبه يومية على الشوارع الاستيطانية ونقاط التماس، مُخلّفةً إصابات عديدة في صفوف المستوطنين. وفي هذا السياق، شنّت مجموعة «عش الدبابير»، قبل أيام، هجوماً مباغتاً على قوات الاحتلال بمحاذاة جدار الفصل العنصري قرب جنين، في إطار العمليات التي تستهدف الحواجز العسكرية كحاجزَي الجلمة وسالم وبعض المستوطنات. أيضاً، سَجّل يوم الثلاثاء 15 عملاً مقاوماً توزّعت بين حادثة إطلاق نار واحدة، وواقعة إلقاء زجاجات حارقة، وعمليّتَي تصدٍّ للمستوطنين، و11 هجوماً بالحجارة، ما أدّى إلى إصابة أحد المستوطِنين.

لكنّ التطوّر الأبرز أخيراً، والذي أعطى دفعة معنوية جديدة للفلسطينيين والمقاومة، هو بيان من مجموعة «عرين الأسود» كشفت فيه عن تَمكّنها، إلى جانب مقاومين آخرين من بينهم عناصر من «كتيبة بلاطة»، من استدراج قوّة إسرائيلية خاصة إلى البلدة القديمة في نابلس، والاشتباك معها في عدّة محاور، وتفجير عبوات ناسفة فيها. وأوضحت المجموعة أنها «تتعامل مع المحتلّ بتكتيك مختلف، فقد أخْفت قادتها وجندها، ومعلومات الاحتلال عنها انقطعت ولا يعلم لا هو ولا مُعاونوه أيّ معلومة عن العرين»، مُطمْئنةً المواطنين إلى أن «عرينكم بألف خير ما دمتم بخير، ومعنويات مُقاتليه تناطح السحاب ما دمنا نرى الأمل في عيونكم، فاطمئنّوا، فوالله الذي أَحقّ الحق سنُقاتل حتى آخر مقاتل وآخر طلقة وآخر قطرة دم». ويأتي ذلك في وقت يتعاظم فيه هاجس التدهور الأمني لدى المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، مع قرب تشكيل الحكومة اليمينية برئاسة بنيامين نتنياهو، والتي يقدَّر أن يكون للمتطرّفَين إيتمار بن غفير ويسرائيل سموتريتش نصيب منها، ما يثير مخاوف من تداعيات خطيرة قد تصل إلى حدّ انهيار السلطة الفلسطينية، نظراً إلى ما يحمله هذان من أجندة متطرّفة تتّصل بالأسرى والمسجد الأقصى والاستيطان.

وفي ضوء تلك المخاوف، برزت تحرّكات المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية وتحذيراتها، مدفوعةً على ما يبدو بنصائح أميركية، إذ حذّر رئيس «الشاباك»، رونين بار، خلال لقائه نتنياهو، من «خطر انهيار السلطة الفلسطينية»، وتدهور الوضع الأمني في الضفة. ومردّ هذا التحذير هو أن سموتريتش وبن غفير سيكونان عضوَين في المجلس الوزاري المصغّر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت)، وهذان يطالبان بتشديد عمليات الجيش الإسرائيلي في الضفة، وتسهيل إطلاق النار، الأمر الذي سيقود إلى تشكُّل جماعات فلسطينية مسلّحة جديدة مِن مِثل «عرين الأسود»، إلى جانب فقدان السلطة الفلسطينية السيطرة على أجزاء كبيرة من مناطقها، وبالتالي نشوء حالة لم تشهدها الأراضي المحتلّة منذ عقدَين. وتجلّى القلق من السيناريو المذكور في قيام الإدارة الأميركية بإرسال مبعوثها للأراضي الفلسطينية، هادي عمرو، إلى إسرائيل، حيث شدّد على ضرورة اتّخاذ خطوات لصالح تعزيز قوّة السلطة، منبّهاً إلى أن هويّة وزير الجيش القادم مفصلية في ذلك السياق، وذات تأثير كبير على العلاقات مع الأميركيين أيضاً، لافتاً إلى أن نتنياهو يعي ما تَقدّم جيّداً. ومن شأن الرفض الأميركي لتولّي سموتريتش وزارة الجيش أن يضيف صعوبة إضافية أمام تشكيل حكومة جديدة في دولة الاحتلال، التي تعيش أزمة سياسية منذ سنوات بسبب عدم تَمكّنها من تشكيل حكومة مستقرّة. وحتى لو تمكّن نتنياهو من تجاوُز تلك الصعوبات، فإن حكومته ستُواجه تحدّياً كبيراً في الأراضي المحتلّة، خاصة في ظلّ بروز محاولات لتكريس أشكال جديدة من العمل المقاوم وتطويره، تجلّت بعض مؤشّراتها في «عملية أرائيل» الأخيرة، والمَركبة المفخّخة في جنين.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى