كتب

تدمير مملكة الأوهام في ‘ليلة واحدة تكفي’ لقاسم توفيق

منية قارة بيبان

الكاتب الأردني في روايته يفضح هشاشة الواقع العربي وهشاشة الإنسان عموما دون أن يشحن القارئ بوقود من الأمل الكاذب.

 

حين يغدو الفعل الأساسي للإنسان هو التعامي عن الواقع والحقيقة وتدجين النسيان، حين تكون صناعة الأوهام ترياقا للهموم وموطنا للفرح العابر وفضاء أوحد للهروب من قبح الواقع والتعامي عن الهزائم والانكسارات، هل يمكن أن تكفي “ليلة واحدة” للإطاحة بمملكة الأوهام وتعرية الذات؟ هذا بعض ما تجيب عنه رواية الكاتب الأردني قاسم توفيق “ليلة واحدة تكفي” الصادرة عن دار مسكلياني/عليسة/ الآن ناشرون ط 4، وقد وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر سنة 2023.

في رواية “ليلة واحدة تكفي” يُختزل زمان الأحداث ويتكثف المكان. يتحدّد زمان الأحداث بيوم الخامس من يونيو/حزيران سنة 1967، أما المكان فهو حانة الريفيارا في العاصمة عمّان قرب السفارة الأميركية. يشمل التكثيف والاختزال الشخصيات أيضا حيث يتم التبئير في سرد الأحداث على شخصيتين فقط، رجل وامرأة، هما ذيب ووجدان، تجمعها “حانة” في تاريخ رمزي هو ليلة النكسة العربية سنة 67. تتجاور حكايتاهما وتتقاطع فتتوالد معها ثنائيات تشكل المعمار الروائي وترسم تقاطيعه عبر جدلية النور والظلام، جدلية التذكر والنسيان، وجدلية التخفي والتعرّي، تتضافر جميعها في توليد المعاني وبناء الدلالات.

ثنائية النور والظلام:

تتواتر في الرواية جملة تكاد تشكّل لازمة في جلّ الفصول تردّدها أصوات خفيّة تتجوّل في المدينة وتدعو الجميع إلى إطفاء الأضواء “اطفي الضو”.. نداء متواتر لنشر الظلمة وتعميمها في ليلة ستنكشف فيها العورات وتنجلي الأوهام. “اطفي الضو” تعني التخفي تحت جنح الظلام والاستسلام للمجهول، تعني رمزيا أن لا حاجة للرؤية والبحث. أو هي دعوة ضمنية للتعامي والنسيان. وبين الاستجابة لهذا النداء وتحدّيه بإنارة الحانة يتقدم السرد وتتطوّر الأحداث. يُواجه النداء المنبعث من الشارع بالرفض أحيانا وتتباين الردود بين مدّ وجزر، فتعيش الشخصيتان وجدان وذيب حالة من التذبذب والحيرة بين الاستسلام للظلام ومقاومته بالنور ولو كان نور شمعة صغيرة. فالنور وحده هو الذي سيسمح بالرؤية وبكشف الحقيقة، وهو ما سيتحقق حين تدخل وجدان الغرفة المظلمة في آخر الحانة وتقرأ على “ضوء” الشموع رسائل ذيب، فتكتشف فيها ذاته المتخفية وسيرته اللامرئية، وترى في نور الشموع أوجاعه وفواجعه. كما أن ضوء الصباح هو الذي سيكون قرين الإعلان في الإذاعة عن حقيقة الفاجعة/الهزيمة التي عاشتها البلاد والأمة العربية، حيث تفهم وجدان وذيب أن ما خالاه في البداية انتصارا للقوات العربية يوم الخامس من يونيو/حزيران سنة 67 وقد صفقت له الأيدي وهللت، لم يكن سوى هزيمة شنيعة للعرب أعلنت عنها الإذاعة “الإسرائيلية” من قلب عمّان.

لقد كان الضوء داخل حانة الريفيارا “الضوء الوحيد المتمرّد في عمّان” والبقية ظلام دامس. والضوء سيسمح للشخصيتين ذيب ووجدان بالبوح والكلام ومقاومة الصمت السائد وكشف الحقيقة.. بوح يسترجع أحداث الماضي عبر تقنية التذكر حينا والحوار أو الاستنطاق أخرى ويسهم في فهم عوالم الذات الخفية لكل منهما.. ولئن كانت ثنائية الضوء والظلام مرتبطة روائيا بالمكان وبسماته، فقد انفتحت دلاليا ورمزيا على أعماق الشخصيات فألقت أضواء كاشفة على ماضيها وصراعاتها الباطنية وخيباتها وانكساراتها وجعلتها تقف أمام أناها عارية متجردة من أقنعة المجتمع وضغوطاته.

يتردد السرد في الرواية بين اتجاهين، اتجاه خطي تتابعي تتلاحق فيه الأحداث نحو آت غامض، واتجاه استرجاعي يرسم ماضي الشخصيتين، ينهض به السارد حينا وأصوات الشخصيات أخرى. وتتشكل عوالم الرواية عبر تجاذب بين الماضي والحاضر في جدلية تتحدد بها علاقة الشخصيات بالذات وبالعالم. هي جدلية التذكر والنسيان أو البوح والكتمان.

تدخل الممرّضة وجدان الحانة بعد انتهاء فترة الدوام في المستشفى، كما يدخلها بقية الزبائن والروّاد التوّاقين للفرح العابر الهاربين من حاضر خانق، ناشدين السلوان، والحانة فضاء النسيان بامتياز فـ”صوت هتافات الرجال الفرحين التي كانت تنطلق من غرف الممرّضين، تصفيقهم وتهليلهم هو الذي دفعها للهرب” ص 10. كان هاجسها وما قادها نحو الحانة هو البحث عما يحرّرها من “الخوف المبهم الذي يتربع داخل صدرها”.

لكن النسيان لن يكون معها إلا حلما عابرا وسرابا خلّبا، ذلك أن كل ما في الحانة سيدفعها إلى التذكر: الأغاني الوطنية التي تبث في الراديو، أسئلة ذيب، الشارع الخالي من المارة. وهو ما سيجعل عملية التذكر وتقنية الاسترجاع مهيمنة في الرواية.. تستعيد وجدان عبر الذاكرة كل أحداث الفقد التي شهدتها، موت حبيبها عيسى، فقد أبيها أيّوب الزحّار، فقد وطنها إثر عملية التهجير والنزوح القسري التي عاشتها مع أبيها من موطنها حيفا إلى جنين إلى الأردن..

لم تكن وجدان تنشد النسيان فقط وقت اللجوء إلى الحانة وعندما بدأت الحرب في عمّان، بل كانت تستدعيه في جلّ الأوقات: وقت العمل واستقبال الولادات الجديدة في المستشفى، فمع كل ولادة جديدة وكل صرخة رضيع يتجدّد “التعامي” عن صوت الموت القادم من الأعماق وعن لحظات الحيرة التي تنبعث فيها عند تذكر الماضي. “تساءلت هل كتب عليّ أن أطرد من وطني، وأن يرحل عني أبي، وتعجز أمي، ولا أتعلم ما أحبّ، ثم بعد كل هذه الهزائم أخسر الرجل الذي كان سيجعل عمري حلوا، وأنتظر المكتوب القادم؟ يا للمأساة ..” ص 27. ترفض وجدان التذكر وتمعن في “تدجين النسيان” بإمعانها في تغذية الأحلام ذلك أن “الأحلام أرخص بضاعة في سوق العمر”. والحلم هنا ليس سوى وجه من وجوه نسيان الواقع والإبحار في عالم لم يخلق بعد، في عالم جديد من نسج الخيال يغدو في نظر وجدان “القيمة الحلوة الوحيدة للعيش” حين يغيب المعنى وتفتقد القيمة.

أما ذيب  فيعترف أن “الوهم هو الحقيقة الوحيدة لوجودنا” وأنه “هو ما ينجي البشر من أنفسهم ومن غيرهم” ص 149. لقد استطاع ذيب أن يصنع لذاته صورة شخصية مغايرة نسجتها تلك الابتسامة الدائمة التي يوزعها على الحرفاء في الحانة، وتلك الولادات الوهمية التي اعتبرها تجددا لذاته وإعادة بناء لها وانتصارا على الآخر، ورسائله المزيفة التي كان يحبّرها على لسان زبائن الحانة ويبعثها لنفسه. وبالوهم استطاع الانتصار على جغرافية المكان، فغرفته الضيقة المظلمة داخل الحانة هي في نظره “مملكة” وعالم جميل صنعه بإرادته وحريته: “لم أر في العالم الذي من حولي شيئا أجمل منه” ص 145.

استطاع ذيب تدجين النسيان عبر الصمت الذي لازمه منذ طفولته، عبر الإجهاز على الماضي بمحوه من سجل اللغة، وعبر الخيالات والأوهام التي اصطنعها  لتخلق له ذاتا جديدة. “تكفيه ذاته التي دجنت على النسيان. لن تأتي هذه المرأة بكل ما فيها من جمال في يوم العزلة المخيف هذا لتطلق لسانه وتستفزّ ذاكرته ليفضح عمره” ص 82. لقد كانت أسئلة وجدان دعوة للإبحار في الماضي وللجلوس على كرسي الاعتراف.

أي حقيقة تريد الشخصيات أن تدفنها؟ وأيّ تشوهات تروم الذات العربية عموما  نسيانها وتزييفها بصناعة الأوهام؟ ذلك ما سيجلوه خطابها في لحظة التعري، فالذات الواهمة ستتعرى بالتذكر وتنكشف هشاشتها، تلك التي حاول ذيب التهرب منها ولم تفلح إلا المرأة/وجدان في كسر الحصار عنها وتعريتها.

جدلية التخفّي والتعرّي:

يعترف ذيب في نهاية الرواية وعبر ضرب من المحكيّ النفسي –هو حسب كوهين “شكل سرديّ ضروري في استكشاف الحياة النفسية للشخصيات الروائية” – يعترف أن هذه الليلة قد عرّته واستلبت منه كل شيء. “لقد كان واهما مثلما يدّعي، فلا خلاص بالطبيب النفسي، بأعماره المزعومة، ولا بعزلته التي لم تكن سوى ضرب من العبث” ص 173.

كانت ليلة الخامس من يونيو/حزيران 67، وهجوم الطائرات الإسرائيلية على عمّان وعلى مصر ليلة استعادة الذاكرة وانكشاف الأوهام لتنجلي الحقيقة في قبحها والهزيمة في حجمها الحقيقي. تتعرّى الذوات المأزومة في هذه الليلة فتتذكر انكسارتها وهزائمها السابقة. فيها يتذكر ذيب ما عاشه في طفولته من عملية اغتصاب شنيع جعله عاجزا عن مواجهة واقعه إلا عبر النسيان والصمت وصناعة الوهم وهو ما عجز عن البوح به لوجدان. اغتصاب الطفل هو اغتصاب للبراءة وللأرض الواعدة. ويبقى في نظره “الوهم هو الحقيقة الوحيدة لوجودنا… الوهم هو ما ينجي البشر من أنفسهم ومن غيرهم” ص 149.. أما وجدان فهاجس التخفي والهروب معها أكثر جلاء سواء بتعاميها عن أصوات الموت في المستشفى أو بلجوئها إلى الحانة للتحرّر من خوفها وهربا من الحقيقة، بل إن عملها اليومي في استقبال الولادات بالمستشفى شكل من أشكال تناسي الموت والهزائم.. فالحلم وحده في نظرها هو “أمل المكسورين”. لكن هل تعرت الشخصيات حقا؟ هل واجهت نفسها في المرآة وباحت بحقيقتها؟

لقد كانت هذه الليلة كافية لينهار عالمها الهش وليفضح الزيف الذي انبنى عليه. كان انهيار القدس الذي أعلنت عنه الإذاعة الإسرائيلية في القدس كافيا لتعرية قبح الواقع وكشف العجز والهزيمة، كان لحظة انهيار تام. و”وجدان” الشخصية الروائية قد لا تكون سوى استعارة روائية لوجدان الأمة العربية في محاولاتها المتكررة الهروب من تشوّهات واقعها وانكساراته عبر صناعة الأوهام وتدجين النسيان.

الشخصيات في رواية “ليلة واحدة تكفي” شخصيات مأزومة، وهي صدى لصورة الإنسان العربي في مواجهة نكساته وهزائمه، يهرب من واقعه إلى تراث قديم وتاريخ مجيد عله يجد فيه بعض ما يستعيد به الثقة والمعنى “ذيب”، أو يهرب من حقيقته وواقعه عبر النسيان وصناعة الأوهام.. ولن تنكشف الأوهام إلا بتعرية القبح المتخفي داخله ومواجهة الحقيقة والاعتراف بالهزائم المتتالية، أولها هزيمة الأرض المغتصبة (الطفولة المغتصبة) وفقد الأوطان، هي صورة للإنسان العربي في ترنحه بين شعور فادح بالوجع والقهر والخيبة وبين أصوات تبيع له الأوهام في سوق الأحلام..

غير أن الرواية وإن بدت قادرة على فضح هشاشة الواقع العربي وهشاشة الإنسان عموما، فهي لن تترك فسحة للقارئ لشحنه بوقود من الأمل الكاذب.. فالليلة الواحدة وإن كانت كافية لتعرية الواقع في الرواية، إلا أنها لن تغير الوعي العميق لدى الأمة، ذلك أن الفصل الأخير من الرواية ينفتح زمنيا على “يوم سابع”.. فبعد ستة أيام من تلك الليلة تتواصل الخدعة، وتتواصل الأوهام مع كذبة جديدة لذيب، ورسالة حب “مزيفة” يكتبها على لسان وجدان.. يخادع بها ذاته المسحوقة.. ليتواصل الوهم وتتواصل اللعبة من جديد..

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى