تدويل الأزمة المصرية (جميل مطر)
جميل مطر
نعيش الآن حالة ممارسة فعلية لتجربة تدويل قضية داخلية، من علاماتها هرولة أطراف خارجية تحت عناوين الوساطة والمساعدة والمعونة والتشاور، نراها تتدافع حيناً وتنسق في ما بينها حيناً آخر. أكثرها أتى إلى مصر بعد أن سبقته إليها شحنات أسلحة أو رجال مسلحون ومدربون على قتال المدن وتحويلات مال أو وعود بمأوى ومستقبل. بعضها يزحف بحذر وحرص، فالمنطقة متفجرة والأعصاب ملتهبة، وبعضها الآخر لا يلوي على شيء، فقد راهن على طرف بعينه من أطراف النزاع الداخلي ولكل من هذه الأطراف امتداداته الخارجية والداخلية، وخسارته لو خسر ستكون مؤلمة وربما كارثية.
مشهد تدويل قضية داخلية، أو بداياته على الأقل، من المشاهد المتكررة وتاريخ المنطقة زاخر بها. قالت الكتب إن حكام الشرق الأوسط هم الذين ابتدعوا فكرة تدويل قضاياهم الداخلية، منذ أن ابتكرت الأطراف المحلية المتصارعة فكرة إقامة تحالفات مع قوى خارجية، من دون أدنى حرص أو خوف على سيادة الدولة واستقلالها، بل وأحياناً من دون أدنى حرص أو خوف على مكانة الدين وقدسيته في حالات كان الحكام يحكمون باسم الدين.
المشهد الأول والأشهر، تبدى خلال العقود الأخيرة من هيمنة الخلافة العثمانية، وهو المشهد الذي اشتهر تحت عنوان «المسألة الشرقية»، في وصف حالة نموذجية لأمبراطورية إسلامية تتهاوى بسبب خلافات وانقسامات داخلية، وحولها امبراطوريات أوروبية صاعدة وباحثة عن مواقع أقدام في الأراضي الشاسعة التي هيمنت عليها الأمبراطورية العثمانية قروناً عديدة. وفي الخلفية العامة للمشهد تراث هائل من صراعات الأديان.
كانت السلطة العثمانية في مرحلة متقدمة من عمر الامبراطورية متحفزة وجاهزة لاستدعاء حلفاء ووسطاء وتجارب من الخارج للاستعانة بها ضد خصوم الداخل، وكانت الساحة الدولية متحفزة وجاهزة، إمبريالياً، للاستجابة الفورية لأي دعوة توجهها لها دولة الخلافة وولاياتها في أوروبا وآسيا، وكان الدين، أيضا جاهزاً، بانقسامات تعمقت في ظل التدهور والاستبداد وسوء استخدام السلطة السياسية لمعانيه وتراثه، كان قابلا للتنازل عن مكانته «السياسية» أمام زحف قوى التحضر والتغريب والقوى القومية والاشتراكية. كل أطراف الأزمة العثمانية كانت ساعية لدعوة الأجانب ليتدخلوا في صنع المستقبل، بعد ان أثبتت قوى الداخل عجزاً أكيداً في التخلص من إرث التخلف والفساد والتخبط وبدء عملية انهيار المؤسسات كافة. انتهت المسألة الشرقية والتدخل الأجنبي لحلها بحرب وانقلاب واتفاقية «سايكس بيكو».
[[[
سوريا، بوضعها الراهن، تمثل مشهدا آخر من مشاهد تدويل أزمة داخلية، وإن كان بين المشهد العثماني والمشهد السوري ما يزيد عن القرنين. هنا أيضاً كانت الرغبة في دعوة الأجانب عالية لا يجاريها إلا رغبة العثمانيين. نشبت الثورة، وما هي إلا أيام حتى كانت أموال الخارج تتدفق في اتجاه فصائل بعينها، ثم تدفقت الأسلحة. وفي النهاية وصل المرتزقة عبر حدود فتحت لهم من الخارج. الإيرانيون لم ينتظروا الدعوة، فالرهان على نظام الأسد كلفهم غالياً، وسقوطه يكلفهم ما هو أغلى. بل قد يكون كارثياً بالنسبة لاستراتيجية إقليمية ودولية أعدتها طهران وأخذت عقوداً عديدة لتكتمل. روسيا كذلك تصرفت منذ الأيام الأولى مستندة إلى واقع أنها مدعوة دعوة مستدامة، فضلا عن أنها كانت، قبل نشوب الثورة السورية، تشكو من إهمال الغرب بل وتجاوزه كل الحدود في توسيع نفوذه في الشرق الأوسط على حساب مصالحها ومهدداً مواقع نفوذها التقليدي. لم تخف موسكو غضبها للمهزلة التي مارسها في ليبيا حلف الأطلسي بدون مراعاة لمصالح روسيا واستثماراتها في البحر المتوسط. الآن لا ينكر أحد في روسيا أو خارجها أنه لو لم تتدخل روسيا في سوريا وتعيد أسطولها إلى موانيها وتفرض نفسها طرفاً رئيسياً محاوراً في أي خطة توضع لمستقبل الهلال الخصيب بأسره، وليس فقط في سوريا، لانتهى الأمر بإخراجها كلية من معادلة توازن القوى العالمي.
لأسباب مشابهة، وإن بنتائج مختلفة تماماً، وجهت أطراف عديدة، منها دمشق ذاتها، الدعوة لتركيا للتدخل في «المسألة السورية». استدعيت وكانت جاهزة لقبول الاستدعاء. وما زالت حكومة أردوغان جاهزة لتكرار التدخل أو توسيعه لتعويض ما فقدته بسبب تدخلها في وقت غير مناسب وبأسلوب غير مناسب، أو لعله كان حلقة رابعة في سلسلة تدخلات سيئة الحظ في كل من العراق وليبيا ومصر.
[[[
مصر ليست استثناءً عن القاعدة. مصر جزء أصيل في منظومة الثقافة السياسية للشرق الأوسط، وجزء أصيل في استراتيجية الغرب في الشرق الأوسط، وجزء أصيل في شبكة مواصلات النفط وتجارة الغرب مع الشرق، وجزء أصيل في دائرة السعي الدائب في الغرب لفهم الإسلام، وبخاصة جوانبه السياسية، ووضع استراتيجية مناسبة للتعامل معه.
بمعنى آخر توفرت كل الظروف المشجعة على دعوة الأجانب للتدخل لتسوية النزاع الداخلي في مصر، وإن دعت الضرورة فليكن لدعم طرف ضد آخر. تحمس أطراف النزاع الداخلي وراحوا يتنافسون على كسب عطف الأجانب. فجأة وجدنا أنفسنا وقد انشغلنا بمهمة عد الأنفس في ميادين مصر وشوارعها، لم تكن الأرقام المعلنة للتأثير فينا كمصريين بقدر ما كانت منذ اللحظة الأولى موجهة للعالم الخارجي، بل بلغ الأمر بنا ان تحولنا شهوداً وحكماً بين رأيين تتقاسمهما صحف إنكلترا وأميركا، رأي يقول إن العدد بالملايين الكثيرة ورأي يقول إنه بالملايين القليلة. ولا أظن أنني كنت الشخص الوحيد الذي تلقى عشرات المكالمات الهاتفية والزيارات الشخصية من إعلاميين أجانب للاستشهاد بقناعتي عن أي الرقمين أدق.
ثم انتقلنا من سباق الأرقام إلى سباق الأطفال والنساء. راح الطرفان يتنافسان على الخروج بعائلاتهم نساءً وأطفالا، ثم بالغ طرف في الأمر حين نقل إليه ناصحون مقيمون في لندن وواشنطن وباريس، بأن وجود الأطفال في التظاهرات حافز مهم لكسب رضاء حكام الغرب ورأيهم العام. فإذا بنا نرى الأطفال وقد ازدحمت بهم صور مواقع الاعتصام. ولمزيد من التأثير جعلوهم يحملون أكفاناً، ناسين أو جاهلين بحقيقة أن الناس في الغرب لا تعنيهم حكاية التطلع إلى الحصول على شرف الموت، ولا تعنيهم الأكفان، فهؤلاء إن ماتوا دفنوهم بدون أكفان. بمعنى آخر، رسالة خطأ مرسلة إلى الغرب، ورسالة خطأ إلى شعب مصري قام بثورة ليعيش لا ليموت، بل وليعيش حياة أفضل.
رسالة الأكفان، ورسائل أخرى عديدة عن الموت أرسلت إلى الخارج باعتبارها دعوة خاصة للأجانب للتدخل في «المسألة المصرية». وللحق استجاب الدكتور محمد الظواهري الذي دعا «الإخوان» في مصر إلى التوبة بسبب الأخطاء التي ارتكبوها عندما وصلوا بالديموقراطية الشريرة للحكم وإلى الصمود في وجه المؤامرة الصهيونية الديموقراطية، وربما استجاب لرسالة الأكفان عشرات أو مئات من الإرهابيين حملوا السلاح وحلوا بمصر بهدف تدويل الأزمة. استجاب أيضاً، أو تطوع للوساطة, أطراف وقوى عديدة هبطت على بلدنا لتتدخل في صنع مرحلة مصرية على هواها إن أتيحت لها الفرصة.
لم يكن الطرف الآخر أقل حرصاً على دعوة العالم للتدخل، حتى ان نبيل فهمي، وزيرنا الجديد في الخارجية، لم يجد بداً تحت ضغط الخارج من ان يقول إنه «لن يمانع في استقبال الوفود الأجنبية والاستماع إليها، فالرأي والقرار في النهاية لنا».
لا أشك ولو للحظة واحدة في صدق نيات نبيل فهمي وغيره من القادة المنفتحين على العالم الخارجي والساعين لاستقبال المزيد من الوفود الأجنبية، إلا أنني ما أزال عند اعتقادي أن الرأي النهائي، مثل أي رأي نهائي، لن يخرج عن كونه محصلة عديد العوامل والضغوط الداخلية والخارجية، فإن تجاوزت الضغوط، ولا أقول الإملاءات، الخارجية حدود المعقول، ستتوقف الأزمة عن كونها أزمة مصرية وستصبح ملفاً دولياً عنوانه «المسألة المصرية».
أعرف أن هذا المصير ما زال حلماً يراود أطرافاً مصرية وأجنبية تسعى بنيات مبيتة وجهود خارقة لتدويل الأزمة الداخلية.
تعالوا نحبط هذا السعي.
صحيفة السفير اللبنانية