تراجيديا ظهور الغاز الطبيعي واختفائه

الشبح… وحده الذي يقتات من الصرخات والرعب الصامت من غياب الكهرباء أو ابتلاعها في فم الوحش الرابض في مكان ما... مَن سرق الكهرباء؟ قبل 30 يونيو خرجت الزنة من جحور سرية بأن «الكهرباء تذهب الى غزة ومصر منورة بأهلها». ذهبت الزنة واتسعت بقع الظلام… والشبح يتمشى بين فترات الانقطاع التي لا يعُرف لها جدول، كما لم يكن لها سابق إنذار.

وبالتأكيد ليس أقل من شبح يبحث عن فترات إقامة هانئة في الظلام هو من يحوّل مدن مصر الى بقع سوداء يتخللها ضوء شحيح… ذلك الشعور غامض يزحف مثل عمر لا تشعر به او اشارات صغيرة تسبق الانهيار الكبير.

لا أحد يعرف كيف بدأ عصر الظلمات في مصر. المصريون دخلوا متلازمة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة وتدرّب الذين تربّوا على معجزة «الكهرباء التي يولدها النيل في السد العالي» على الحياة في الظلام.

السخرية لم تُسعف المصريين هذه المرة وكانت أقل من شحنات كآبة عمّقها الغموض الذي يلف ازمة الكهرباء ومحاولة اجهزة البروباغندا المصاحبة للإيحاء بأن السبب «عمليات إرهابية اخوانية» وهي أوصاف تستوحي طريقة الرئيس المعزول محمد مرسي حين اتهم «شخصاً يحصل على 20 جنيه ويشدّ سكينة الكهرباء».

المؤامرة وحدها تريد التغطية على ما هو أكثر رعباً.

وهناك ايضاً ما يمنع الشكوى: فكيف نتكلّم عن الظلام الذي نعيشه… ألا نرى ما حدث في العراق وسوريا؟ و«لازم نستحمل» و«المشكلة في أن الاستهلاك يزيد» إلى آخر تلك الاسطوانات المشروخة التي أضيف اليها مؤخراً فقرات من نوع «… السيسي يغضب ويأمر بحل الأزمة في ثلاثة ايام» وهو لغز أكبر من تعلم الحياة في الظلام. إذا كان هناك ما يحل الأزمة في ثلاثة ايام، فلماذا انتظر المسؤولون في الحكومة حتى يغضب السيسي؟ المدهش ان الأزمة التي تصاعدت قبل «الغضبة»… تراجعت الى حد ملحوظ بعدها… وهو ما يوحي بانفراجة ما غير معلومة الأسباب (ولن تبتعد عن حدود توفير موارد مالية لشراء وقود للمحطات)… لكن هذا لن يغير واقعاً تعيشه مصر منذ سنوات تنهار فيها تباعاً البنية الاساسية التي يواجهها جهاز الدولة بمعزوفة تعليق الكارثة على زيادة الاستهلاك في إطار سياسة يشعر فيها المواطن بالعار، لأنه اصبح حملاً ثقيلاً على الدولة. هو السبب في العتمة التي تعيشها مدن كاملة، وشوارع وسط المدينة، وهو السبب في عودة الظلام، وانتعاش خفافيش الجريمة.

ومنذ العام ٢٠٠٩ أي في عصر الفساد الجميل أيام مبارك والمعلومات تتحدّث عن انخفاض معدل إمداد محطات الكهرباء بالغاز الطبيعي بداية من العام ٢٠٠٤، حيث انخفض بنسبة ٢ في المئة وتزامن ذلك مع بدء وزارة البترول في تصدير الغاز الطبيعي الى اسرائيل.
تصدير الغاز إلى اسرائيل يظهر الآن كبعد ماسأوي يمس الحياة/ لا الايديولوجيا/ الدولة بما أنها تأكل المستقبل لا تساهم في صنعه/ أو تتعامل على أنها الجيل الأخير ولتنتحر الأجيال القادمة/ وهذا سر من أسرار الانحطاط.

وفي شهادته امام محكمة القرن (التي يُحاكَم فيها مبارك وعصابته)، قال اللواء محمد فريد التهامي مدير المخابرات: «في هذا التوقيت كان يُعطى الغاز لإسرائيل كنوع من التشجيع لانسحابها من سيناء، والنائب عمر سليمان كان يحاول وجود مصادر تمويل والاستعانة بالتمويل للمخابرات العامة والصرف على الأجهزة الأمنية، لأنها كانت تحتاج إلى مصاريف كبيرة».

والشهادة كاشفة لواقع تعاملت فيه الأجهزة بأنها «صاحبة» او «مالكة» البلد تتصرّف في ثرواتها او مواردها لتحل مشاكلها الإدارية… وهذا ما يجعل شبح الكهرباء جاثماً وقاتلاً ومثيراً للرعب… وغير قابل للحل قريباً… فالدولة التي أكلت نفسها وتعاملت على أن وظيفتها «تأبيد اللحظة الراهنة» حوّلت الحياة الى جحيم أرضي.

جحيم لا يخلو من عبثية لا يمكن تخيّلها… فالمازوت دمّر محطات الكهرباء أولاً لأنه كان ومنذ خمس سنوات غير مطابق للمواصفات وهو ما خسرت الشبكة القومية للكهرباء بسببه ١٦٠٠ ميغاوات… وتبع ذلك خسارات متلاحقة بسبب عدم الصيانة أو عدم القدرة على توفير المطلوب من الغاز وذلك بعد فشل الحصول على حق مصر في الحقول البحرية.

هكذا لم يعد أمام مصر إلا استيراد الغاز من إسرائيل… وهناك بالفعل مفاوضات على استيراد غاز بـ60 مليار دولار.

والخبر الذي نشرته صحيفة «المال» يتحدّث عن تفاصيل تمنح لتراجيديا الغاز المصري بعدها الكوميدي... حيث تتوازى مفاوضات الهدنة في غزة مع مفاوضات شراء غاز طبيعي من شركات إسرائيلية وتوصيله إلى محطات التسييل في ميناء دمياط ومدينة إدكو الساحلية في مصر.
وتلح وكالة «بلومبرغ» على هذا الملمح وهي تسهب في تفاصيل من نوع: «أن المباحثات التجارية بين مصر وإسرائيل تجري وسط أسوأ توترات سياسية منذ حوالي 10 سنوات بين غزة وإسرائيل، لاسيما مع خرق صواريخ حماس للهدنة التي جاءت بفضل الجهود المصرية لوقف إطلاق النار بين الجانبين».
وبحسب الخبر فإن «اتفاقيات توريد الغاز الإسرائيلي لمصر من المتوقع أن يتم إبرامها قبل نهاية العام الجاري، والتي ستورد بمقتضاها فرع شركة نوبل الأميركية في إسرائيل ووحدات من شركة ديلك غروب الإسرائيلية حوالى 6.25 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي من حقول تامار ولفيتان في البحر المتوسط لمحطات التسييل المصرية».

وما زال في التراجيديا ما يضغط على حسها المرير، ففي الخبر يقول دافيد شريم مدير إدارة الصناديق في شركة «سفيرا» في تل أبيب إن تصدير الغاز لمصر أفضل وأسرع من بناء محطات تسييل جديدة داخل إسرائيل، لاسيما أن الاتفاقيات التجارية تقوّي العلاقات بين مصر وإسرائيل بعد خلع حكومة الإخوان التي كانت ترفض اعتبار إسرائيل شريكاً تجارياً.

… وهكذا لم يعد الغاز الطبيعي شريكاً فقط في مصير «عصر الظلمات» ولكن في الحياة وسط مفارقة الدفاع عن الدولة التي تأكل المستقبل كما تليق بكائن تضخّمت أسطورته بمصاحبة فشله وفساده.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى