تركيا: «رجل يعاني الوحدة» في الشرق الأوسط (جورسيل كادري)

جورسيل كادري*

 

بعد انطلاق الربيع العربي، أسست تركيا سياستها في شرق منطقة البحر الأبيض المتوسط على وهم «حركة الإخوان المسلمين الدولية»، الذي رغبت من خلاله في تأسيس نظام إقليمي جديد بالتعاون مع اللاعبين السنّة الآخرين.

 

اليوم، بعد مرور أربع سنوات وثلاثة أشهر على تعيين أحمد داود أوغلو وزيرا للخارجية التركية، تواجه سياسة أنقرة الخارجية أزمة مزمنة.
لا تقتصر مشكلة "السياسة الخارجية التركية الجديدة"، التي يديرها الثنائي داود أوغلو ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، على الحكم السيئ، وعدم الكفاءة، والتكتيكات غير المنطقية. فلو كانت هذه المشاكل الوحيدة لما صنفنا الوضع الراهن "بالمزمن"، لكن المشاكل العقائدية هي ما تجعلها "أزمة مزمنة"، ولكن قبل أن نتناول هذه العقيدة بالتفصيل، قد يكون من الأفضل أن نتأمل أولاً الصورة العامة للأزمات، بدءاً من الأحدث بينها.
إليكم الواقع اليوم: تتأثر السياسات الخارجية في الدول، التي لا تشكّل طرفاً مباشراً في قضية ما، سلباً أو إيجاباً وفق نطاق المواقف التي تتخذها، وهذا ما حدث بالتحديد مع الانقلاب العسكري في مصر، الذي يشكّل آخر خسائر أنقرة في مجال السياسة الخارجية الاستراتيجية، فتُعتبر تركيا من أبرز البلدان التي تأثرت سلباً بهذا الانقلاب نتيجة المواقف العقائدية والسياسية التي تبنتها تجاه تلك الظاهرة المعروفة بالربيع العربي.
بعد انطلاق الربيع العربي، أسست تركيا سياستها في شرق منطقة البحر الأبيض المتوسط على وهم "حركة الإخوان المسلمين الدولية"، الذي رغبت من خلاله تأسيس نظام إقليمي جديد بالتعاون مع اللاعبين السنّة الآخرين. كان يُفترض بهذه المقاربة الاستراتيجية الجديدة أن تمنح تركيا أدوراً "تبدّل اللعبة وتتحكم في التغيير" وتمنحها مكانة أكثر بروزاً بين شركائها، وقد عبّر صانعو السياسات الخارجية في أنقرة عن أمانيهم هذه في مناسبات عدة مستخدمين عبارات مختلفة.
لم تؤسس تركيا شراكتها وتعاونها مع "الإخوان المسلمين" في مصر على أسس أخلاقية ترتبط بالديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والحرية والمشاركة، ولو فعلت ذلك، لتعاونت مع مصر كدولة، لا مع "الإخوان المسلمين"، وكان بإمكانها في هذه الحالة الحفاظ على علاقة معها ترتكز على المصالح المشتركة من دون الإساءة إلى قيم حساسة مماثلة. لكن حزب العدالة والتنمية التركي لم ينتقد "الإخوان المسلمين" مطلقاً، ولا حتى بطريقة غير مباشرة، رغم انحرافهم الاستبدادي الصارخ عن الديمقراطية. فقد منعه موقفه العقائدي من توجيه أي انتقاد إلى هذه الجماعة.
لو انتقدت أنقرة محمد مرسي، قائد جماعة "الإخوان المسلمين" والرئيس المصري المخلوع، لما اتهمتها القاهرة بعد الانقلاب العسكري بالتحيّز، عندما سمّت تركيا الأشياء بأسمائها ودعت الانقلاب "انقلاباً". نتيجة لذلك، صار موقف تركيا الداعم بوضوح لـ"الإخوان المسلمين" يعوقها عن الحفاظ على علاقات قيمة مع بلد مهم، حتى لو كانت تطبّق مقاربة دقيقة.
لو أتبع داود أوغلو وأردوغان سياسة خارجية علمانية استخدمت المسائل الدينية كعنصر مكمّل لتسهيل العلاقات، لما كانت الاضطرابات التي نشأت لتؤثر في تركيا إلى هذا الحد.
علاوة على ذلك، سمّم الانقلاب المصري التحالف الإقليمي الذي سعى وزير الخارجية ورئيس الوزراء التركيان إلى تشكيله بهدف تطبيق سياسة إسلامية موالية للسنّة والحركة العثمانية في التعاطي مع الأزمة السورية. ففي صيف عام 2011، شاركت أنقرة في الجهود التي بُذلت للإطاحة بالنظام البعثي السوري واستبداله بحكومة يسيطر عليها "الإخوان المسلمون". نتيجة لذلك، انضمت إلى تحالف مناهض للنظام البعثي يشمل كبار اللاعبين الإقليميين السنّة، مثل قطر والمملكة العربية السعودية.
لكن لا مفر اليوم من أزمة ثقة في العلاقات الثنائية بين أنقرة والرياض، بعد بروز المملكة العربية السعودية كداعم سياسي ومالي رئيس للانقلاب المناهض لـ"الإخوان" في مصر، فلا شك أن التطورات المصرية الأخيرة هزّت التحالف التركي-السعودي- القطري. علاوة على ذلك، فيما كان أردوغان وحزب العدالة والتنمية منشغلَين بتظاهرات منتزه جيزي، أثار تخلي أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني المفاجئ عن السلطة لابنه الشيخ تميم آل ثاني (33 سنة) علامة استفهام كبيرة حول مستقبل هذا التحالف.
اعتُبر الأمير حمد أبرز مصدر للسلاح والأموال التي حصلت عليها المجموعات الإسلامية المسلحة في سورية، خصوصاً مَن يتبنون أهداف "الإخوان المسلمين"، ولكن تشير الدلالات الأخيرة إلى أن خلفه سيجدد سياسة قطر الخارجية، متبعاً خطوطاً عريضة تقليدية نسبياً. ومن المؤكد أن الدعم المادي والمعنوي الذي قدمته دول الخليج الثرية إلى نظام الانقلاب في مصر اليوم يشكّل ضربة نفسية قوية لسياسة حزب العدالة والتنمية الخارجية.
تعود نقطة التحوّل الأولى في عزلة تركيا الإقليمية إلى ما قبل الخسائر التي تكبدتها بسبب الانقلاب المصري، إلى السياسة الطائفية التي تبنتها في تعاملها مع سورية، فقد ولّدت هذه السياسة توترات "تذكّر بالحرب الباردة" مع اللاعبين الشيعة في المنطقة، خصوصاً إيران. علاوة على ذلك، بدأت علاقات أنقرة ببغداد تتراجع تدريجياً مع دعمها السنّة في انتخابات عام 2009. ولا بد من التشديد هنا أيضاً على انقطاع العلاقات بين تركيا وإسرائيل في أعقاب حادثة أسطول الحرية في 31 مايو عام 2010. فبعد اعتذار إسرائيل في 22 مارس، توقع كثيرون أن تتخذ تركيا خطوات ملموسة، إلا أننا لم نشهد أي تطورات على أرض الواقع.
نتيجة ذلك، لم يتبقَّ لأنقرة في إطار علاقاتها مع اللاعبين السياسيين المهمين في شرق البحر الأبيض المتوسط سوى صديق واحد، ألا وهو "حماس". أما صديقها الوحيد في بلاد الرافدين، فهو حكومة إقليم كردستان، وهكذا أصبحت تركيا اليوم رجلاً وحيداً في الشرق الأوسط.
منذ نهاية الحرب الباردة، لم تتراجع قدرة تركيا على تطبيق سياستها في الشرق الأوسط مثلما هي الحال اليوم، فمن المؤسف أن سياسات داود أوغلو الإسلامية أوصلت تركيا إلى هذه المرحلة قبل أربع سنوات. يفتقر داود أوغلو اليوم إلى الأسس، والأدوات، والمنشآت الضرورية لتطبيق سياسة خارجية تستند إلى مفاهيمه الخاصة عن "سياسة خارجية متكاملة تتفادى المشاكل مع دول الجوار" و"سياسة خارجية متعددة الأبعاد". إذن، يُعتبر وزير الخارجية هذا المسؤول الرسمي الأول عن هذا التحول المأساوي في تركيا.
في غضون أربع سنوات، تدهورت علاقات تركيا السياسية مع الاتحاد الأوروبي، فأضعف تراجع احتمال انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي قدرتها على الإقناع في محاولاتها تطبيق قوتها الناعمة في الشرق الأوسط، كذلك زادت طريقة تعامل حكومة حزب العدالة والتنمية مع تظاهرات جيزي علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي توتراً، علماً أن السبب الرئيس وراء هذه التظاهرات كان السياسات الإسلامية التي طبّقها هذا الحزب داخل البلاد أكثر منه خارجها.
تعتبر تركيا اليوم علاقاتها مع الولايات المتحدة بالغة الأهمية. لكن مشاكل عدة تشوب مسائل التعاون الإقليمي المتعدد الأطراف الذي تقوم عليه هذه العلاقات. فقد أُثيرت مسألة المماطلة في تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
في شهر مايو، أعلن أردوغان بتردد من البيت الأبيض التزامه بمسيرة مؤتمر جنيف الثاني، ولكن بما أن تركيا لم تحقق أي تقدّم في هذا المجال منذ ذلك الحين، تعجز عن الخروج من دوامة مفرغة تشعر فيها أن سياستها السورية الخاطئة ترزح كاهلها.
لا مفر من أن ترتطم سياسة تركيا الخارجية غير المتقنة (السعي وراء الهيمنة بدعم من روايات تذكّر بالعهد العثماني بالإضافة إلى خصائص إسلامية) بالقعر، حتى لو أُديرت بمهارة، وللخروج من هذا المأزق، على تركيا التخلي عن هذه السياسة في أقرب وقت ممكن، إنعاش عملية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وتبني قيم أخلاقية أسمى في الشرق الأوسط ترتكز على الديمقراطية والحرية والتعددية العلمانية والمساواة، لكن هذا يبدو بعيد المنال بالنسبة إلى كوادر الحكومة الراهنة، فهم المسؤولون عن هذه الأزمة المزمنة.

* كاتب يساهم في قسم Turkey Pulse في Al-Monitor، وله عمود في الصحيفة التركية اليومية "ميليت" منذ عام 2007.

صحيفة أوبيد التركية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى