تركيا أمام مسائل الإرهاب والأكراد والديموقراطية
عندما اغتال مولود ألتينتاش السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف، نهاية السنة الماضية، نفذ الطيران التركي غارات مكثفة على مواقع حزب العمال الكردستاني. وعندما اقتحم عبدالقادر ماشاروف ملهى رينا في إسطنبول في رأس السنة الجديدة وفتح النار على مرتاديه وقتل العشرات، أسرعت السلطات التركية إلى اعتقال أعضاء حزب الشعوب الديموقراطي، الموالي للأكراد، بمن فيهم رئيسه صلاح الدين دميرتاش.
والآن تبدي الحكومة التركية استعدادها لإرسال قواتها (و/ أو القوات المتحالفة معها من المعارضة المسلحة السورية) إلى الرقة لمحاربة «داعش» في مقابل تخلي الولايات المتحدة عن دعم الأكراد (قوات حماية الشعب التابعة للاتحاد الديموقراطي الكردي السوري).
هذه ليست مزحة. لكنها تشبه المزحة. غير أنها مزحة ثقيلة، بل قاتلة، أشبه بالدعابة التي تقول إن رجلين كانا على عتبة الإعدام فسألوهما عن أمنيتيهما الأخيرة قبل الموت. قال الأول إنه يريد أن يرى أمه. قال الثاني إنه يريد ألا يرى الأول أمه.
هذا هو، في الواقع وفي شكل يكاد يكون حــــرفياً، سلوك تركيا مع الأكراد. عند وقوع أي حــــادث، أو معضلة أو مشكلة، تترك الحكومة كــــل شيء وتتوجه إلى الأكراد فتضربهم. لا تــــرى في هذه الدنيا شيئاً يغيظها، أكثر منهم. ليس فقط أكرادها، بل الأكراد أينما كانوا.
هي لا ترحم الأكراد ولا تدع رحمة الله تنزل عليهم من أي طرف آخر. لا تمنحهم أبسط حق من حقوقهم، ليس بوصفهم شعباً يتجاوز عدده في تركيا وحدها عشرين مليون نسمة، بل لا تمنحهم أي حق بوصفهم مجموعة أفراد. تحرمهم من لغتهم وثقافتهم وتاريخهم وتراثهم وأدبهم وفنهم ومسرحهم، دع عنك حقهم في تقرير المصير، فإذا بادرت جهة إلى إرسال دعم لهم، ولو علبة بسكويت، فإنها تترك كل شيء وتسارع إلى تلك الجهة كي تقنعها بسحب ذلك الدعم. وهي مستعدة لأن تتنازل عن كل شيء بما في ذلك سيادتها، وكل خطوطها الحمر، كي تمنع الكردي «من رؤية أمه».
منذ أعلن «داعش» الحرب على الحكومة التركية، (أو هكذا زعمت)، عمدت أنقرة إلى اعتقال سبعة من أفراد «داعش»، باعتراف وزير العدل التركي. في ما بعد جرى إطلاق سراحهم. هناك الآن في المعتقل جزار ملهى رينا. وفي مقابل ذلك تم اعتقال ألف وخمسمئة وثلاثة وستين من أعضاء حزب الشعوب الديموقراطي الكردي، منهم ثمانية وسبعون من رؤساء البلديات في الولايات والنواحي والمدن الكردية الكبيرة منها والصغيرة.
هذه الأرقام أوردتها منظمة أمنيستي أنترناشيونال. وجرى اعتقال مئة وواحد وخمسين صحافياً، بمن فيهم الكاتبة أصلي أردوغان. واعتقل صحافيون من ألمانيا وهولندا والدنمارك لأنهم كتبوا تقارير «عن»، وليس «لمصلحة»، الأكراد. كتبوا عن الوضع في المناطق الكردية جنوب شرقي تركيا ووصفوه بأنه «حرب إبادة صامتة ضد الأكراد». جريمة كل هؤلاء تعبيرهم عن آرائهم التي تنطوي، ويا للهول، على دعوة إلى إيجاد حل سلمي للقضية الكردية. وأغلقت صحف وإذاعات ومحطات تلفزيونية بالجريمة نفسها.
والآن هناك العشرات من الصحف والإذاعات ومحطات التلفزيون التي تكشف عن تعاطفها، في شكل مباشر أو غير مباشر، مع «داعش»، أو على الأقل نهجها.
دخلت الحكومة التركية صف محاربي «داعش» كراهية وليس طوعاً. ومع هذا فإنها «تحاربـها» لفظاً وعينها على الأكراد. والحال أن الدافع الأكبر خلف إعلانها الدخول في حلف المناهضين لـ «داعش» إنما كان إزاحة الأكراد عن المشهد. هي لا تريد أن يكون للأكراد أي دور على الإطلاق.
أكبر انتصار تحققه الديبلوماسية التركية، من وجهة نظر الساسة الأتراك، ليس دعم الجهد الدولي لمحاربة «داعش» ولا تقديم المساندة للشعب السوري، على ما وعدت، ولا محاربة الرئيس السوري بشار الأسد (وكانت وضعت الكثير من الخطوط الحمر التي تحذره من تجاوزها، وتم التراجع عنها كما سقطت الدعوة لإسقاطه)، ولا الدفع في اتجاه دخول النادي الأوروبي. أكبر الانتصارات إقناع حكومات العالم، الغرب والولايات المتحدة وروسيا، بالتوقف عن التنسيق مع الأكراد في محاربة «داعش».
سيقول أحدهم إنني أبالغ، وإن الحكومة التركية الحالية تختلف عن سابقاتها، وإنها قطعت مع ذلك الإرث الشوفيني الفظيع الذي كرســـته الكمالية حيال الأكراد. غير أن الوقائع تكاد تفقــأ الأعين في ما يخص المعاملة التركية العنصرية والرهيبة للأكراد. الوقائع تبين أن لا شيء تغير في السياسة التركية: ما زال شعارها هو: ما أسعد من يقول أنا تركي. وما زالت كلمات وزير العدل الكمالي، عام ١٩٣٣، تتردد بالملموس: الأتراك وحدهم سادة هذا البلد أما الآخرون (وكان يقصد الأكراد بعد القضاء على تمردهم) فعبيد لدينا.
لو سألت مسؤولاً تركياً عن السبب وراء هذا السلوك الغريب لأسرع مجيباً أن الأمر يتعلق بالإرهاب. أنهم لا يعادون الأكراد بل حزب الإتحاد الديموقراطي لأنه إرهابي. هذا غير صحيح.
كل نشاط يقوم به الأكراد هو في عين الحكومة التركية إرهاب: دخول البرلمان، الكتابة في الصحف، الغناء، الرقص، التمثيل على المسرح، وربما تناول الفطور. كل هذا إرهاب إذا مارسه الأكراد. ما عدا ذلك أشياء عادية يمكن التعامل معها بهدوء، من قتل السفير الروسي إلى مجزرة ملهى رينا إلى إحراق «داعش» الجنود الأتراك وهم أحياء.
حين سئل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رأيه بـ «جبهة النصرة»، قال إنهم ليسوا إرهابيين بل حركة تحرير. و «النصرة» هي التي أحرقت الأخضر واليابس في سورية وأعدمت مراهقين لأنهم، في رأيها، مارسوا الكفر.
بالنسبة الى الحكومة التركية، لا ينهض تعريف الإرهاب من الفعـــل بل من الفاعل. فالحـــزب الاتحــادي الكردي إرهابي على رغــــم أنه لــــم يطلق رصاصة واحدة في اتجـــاه تركيا. بالعكس هو ضحى بالمئات من مقاتليه في محاربة «داعش». إنه حزب إرهابي ليــس لأنه يمارس الإرهاب، بل لأنه حزب كردي، فيما النصرة غير إرهابية لأنها غير كردية.
وسبق أن رأى العالم هذا الانحياز في كوباني. كان «داعش» يرتكب الفظائع في المدينة ويفتك بالبشر والحجر، على مرأى ومسمع الجنود الأتراك (كوباني على الحدود). لم تفعل الحكومة التركية أي شيء للحيلولة دون قيام التنطيم الإرهابي بذبح الناس. بل منعت الآخرين من مساعدة الأهالي، الذين حين تمكن بعضهم من الهرب أغلقت الحدود في وجههم. وعندما تمكن مقاتلو الحزب الكردي، ومقاتلاته، وفي شكل بطولي، من دحر التنطيم وإخراجه من المدينة، استشاطت تركيا غضباً. وهي استنكرت توفير الغرب الدعم للمقاتلين الأكراد واعتبرت ذلك تدخلاً خارجياً ومؤامرة لتقسيم سورية (هكذا، وليس تركيا).
الآن لا تتردد أنقرة في الطلب من الغرب قبول مشاركتها في تحرير الرقة شرط إبعاد الأكراد. فالتدخل الغربي لم يعد مؤامرة لتقسيم سورية.لقد كان تحرير كوباني عملاً مداناً ومؤامرة لأن سكان كوباني أكراد. أما تحرير منبج والباب والرقة فيعد عملاً إنسانياً ونبيلاً لأن سكانها عرب!
صحيفة الحياة اللندنية