تركيا تبحث عن أطرافها

في تصريح وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو من العاصمة الأوكرانية كييف قبل يومين مفارقة كبرى. قال أوغلو إن عهد الاتحاد السوفياتي انتهى قبل ربع قرن، في إشارة منه إلى أن «النزعة الإمبراطورية» الروسية الجديدة ليست سوى حنين مارقٍ إلى ماضٍ ولّى إلى غير رجعة. وأضاف في معرض الغزل بمضيفيه الأوكرانيين أن بلاده تدعم وحدة أراضيهم وترفض ابتلاع روسيا شبه جزيرة القرم، التي وصفها بـ «الموطن الأصلي للتتار».

المفارقة في كلام أوغلو أنه، إذ يرى أن موسكو تعيش انفصالاً عن الواقع بمحاولتها استعادة ماضٍ مجيد، يذكّر بأصول الجماعات التي تمُتّ إلى تركيا العثمانية بصلة فُقدت عملياً قبل نحو مئتين وأربعين عاماً. فالتتار الذين تعرضوا للتشريد في العهد السوفياتي وقبله في روسيا القيصرية، عاشوا تحت الراية التركية نحو ثلاثمئة عام قبل أن يستقر بهم الأمر تحت حكم موسكو بُعيد انتصارها على العثمانيين في العام 1774.

غير أن المشكلة تكمن في أن تركيا، إذ تبحث عن أطرافها التي تقطّعت في آسيا الوسطى مع أفول السلطنة العثمانية، تحاول أن تصطنع أطرافاً قومية عند حدودها الجنوبية على ظهر من يُماثلون التتار بغزواتهم، التي مسحوا بها إرثاً عربياً إسلامياً مديداً في بغداد في القرن الثالث عشر.

أوغلو يذكّر بالتتار كقومية مُستضعفة متّصلة بالإرث العثماني، فيما هو يستقوي في سوريا عملياً بالأساليب التي اعتمدها هؤلاء يوم أسقطوا الخلافة العباسية. لا تكتفي أنقرة ببسط نفوذها على الساحة السورية عبر الربط مع أبناء جلدتها تاريخياً، كمنحها أعداداً معتبرة من السوريين من أصول تركمانية الجنسية التركية إضافة إلى جنسيتهم السورية (كما فعلت موسكو في أوكرانيا وجورجيا وغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق مع أبناء هذه الجمهوريات ذوي الأصول الروسية). ولا هي تعبّر عن تطلعها الصريح إلى نفوذ قومي داخل سوريا عبر جماعات تعكس هويتها الإثنية كـ «لواء السلطان مراد» المسلح في الشمال السوري فقط. بل هي تعوّل أساساً على تيار سلفي جهادي لا صلة له بامتداداتها التاريخية أصلاً. تيارٌ يتخذ مظلات عدة للعمل تحتها، تبدأ من «الدولة الإسلامية» ولا تنتهي بـ «جيش الفتح» الذي شارك في «غزواته» المتتابعة لأرياف الشمال السوري، للمفارقة أيضاً، آلاف المقاتلين المتطرفين من أصول روسية.

تبحث تركيا عن أطرافها، تماماً كما يفعل خصمها الروسي، مع فارق في حجم القدرات. وكل من الاثنين يعيب على الآخر بحثه. غير أن نقطة ضعف أنقرة في الحالة السورية، خلافاً لنقطة قوة روسيا في بعض مناطق أوكرانيا مثلاً، تتمثل في أن رهانها الرئيس يقع على جماعات مقاتلة، معظمها عديم الصلة بالهوية التركية (إلا إذا اعتبرنا أجهزة الاستخبارات مظهراً من مظاهر الهوية)، فيما الجسم الأكبر من هذه الجماعات بات اليوم إما في دائرة تصنيف الإرهاب أو أنه يقف على حافّة هذا التصنيف.

لولا نقطة الضعف هذه، لكانت عاصمة سوريا الثانية، حلب، قد أصبحت في بطن السلطان.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى