تركيا.. خشية صعود السلفية الجهادية

على الرغم من كون السلفية لم تستطع حجز مكان لها وسط الحالة الدينية في المشهد التركي، فإنها نجحت في أن تلفت النظر إلى مخاض سلفي صاعد، ولكن بخطى ثقيلة، يغذيه السياق العام الملتف بها، من خلال ما أسهمت فيه حكومة العدالة والتنمية من إعطاء الممارسات الدينية حرية كاملة في تحركاتها، بتنويعاتها المختلفة في الدولة التركية، وذلك بخلاف العقود السابقة التي كان التضييق الأمني على التدين وفرض العلمانية قسرا حائلين دون بروز الحالة الدينية الإسلامية وتصدرها على شكلها الحالي.
بيد أن ذلك الحضور السلفي الهامشي في المشهد الديني التركي، على الرغم من ضعف تأثيره، فإنه بات مصدر تخوف من قبل النخبة التركية والمراقبين للحالة الدينية وفئات من المجتمع أيضا. ويزداد تخوفهم من كون البيئة القائمة في الداخل قد تسهم في خلق ما يمكن تسميته بـ”السلفية الجديدة”، تلك التي ترتسم ملامحها في مخيلة الأتراك بأنها سبب إفساد الذوق الإسلامي في المجتمعات العربية والإسلامية خاصة، بعد ظهور نسختها الأكثر راديكالية.
إلا أن البعض يرى أن ترسخ الوجود السلفي في تركيا أمر بعيد المنال، وغاية يصعب إدراكها وتحقيقها، وفي الوقت ذاته لا يمكن إغفال وجودها في المدن التركية، خاصة وسط المدن الكردية المكتظة بالسكان.
عامل آخر يمكن أن يسهم في ترسيخ الوجود السلفي في تركيا، هو اقترابها من الأماكن الملتهبة في العراق وسوريا وتأثيراتها على الشريط الحدودي، وما تحمله من مدن وقرى متاخمة لهذه الأراضي التي تعج بالمجاهدين من السلفيين وأنصارهم، عربا كانوا أو عجما، والذين دائما ما يستخدمون تركيا جسر عبور إلى أراضي الجهاد، وهو ما يخشى من أن يلقي بظلاله على تفريخ أجيال سلفية جديدة في الداخل التركي.
الخشية من السلفية الجهادية
فيما يري البعض أن ما يحدث في تلك المناطق الملتهبة من دول الجوار التركي في سوريا والعراق، من شأنه أن يؤثر في الأجيال الشابة التركية المفعمة بالحماسة والتدين، مما يزيد من شعبية السلفية الجهادية بين أوساط الشباب على اختلاف أعمارهم، وهو ما أكدته بعض التقارير التي لمحت إلى مدى الجاذبية التي تحظى بها السلفية الجهادية، الممثلة في تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام “داعش”، خاصة أولئك القاطنين في الجنوب التركي، وهو ما يفسر تصاعد الأصوات المطالبة بتحصين الشباب في الداخل التركي من تأثيرات السلفية، خاصة النسخة الراديكالية منها، ويزداد التخوف من هجرة الشباب الراغب في التسلُّف، إما إلى مواطن الجهاد في سوريا والعراق، أو الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وسط السلفيين الأقحاح، أو بالخليج، ليعودوا بعد ذلك بسنوات حاملين الفكر السلفي بكل أطواره وتفصيلاته، ليؤصلوه أكثر فأكثر في العمق التركي.
استهداف الداخل التركي
تزداد المخاوف من الصعود السلفي في الداخل التركي، في ظل مناخ ديني يمتاز بالحرية والأريحية، أن ينقلب على الدولة التركية. ويتم استهداف المؤسسات الإدارية والمباني ومقار الأحزاب السياسية الرئيسة والفرعية وغيرها من قبل النسخة الراديكالية، لما في ذلك من مظاهر لا تناسب شكل وملامح الدولة الإسلامية التي في مخيلة هؤلاء السلفيين، مما يدفع إلى إمكانية نقل التفجيرات والسيارات المفخخة على النحو الذي حدث -على سبيل المثال- من قبل حركة شباب المجاهدين في كينيا بعاصمتها نيروبي، من تفجير في مركز ويست جيت في سبتمبر (أيلول) 2013، بل يمتد التخوف إلى إمكانية الدفع بهتك اللحمة الوطنية والنفخ في كير الطائفية، عبر استهداف طائفة العلويين في تركيا، على اعتبارهم من غير أهل السنة، وذلك بسبب عقيدتهم، لتقديم بديل للنظام القائم، وهو ما يهدد السلم والأمن المجتمعيين، ومن ثم يتلاشى الاستقرار شيئا فشيئا.
مما يخشاه البعض أن يسعى الضغط الغربي والأمريكي على تركيا لمواجهة السلفيين المتشددين، في أن تتحول قبلة هؤلاء المتشددين نحو الداخل التركي، مما يجعل من تركيا رهينة المستقبل، فتقاتل باسم الغرب وتبقى في مواجهة فوهة المدفع السلفي الراديكالي. وما يزيد خطورة الأمر أن كثيرا من الأتراك، خاصة من المثقفين المحافظين والسياسيين والبيروقراطيين، ومن قبلهم الدولة التركية، لا يدركون خطورة المواجهة مع السلفيين نيابة عن الغرب، في الوقت الذي يعاني فيه المجال الديني التركي من عدم انضباط إيقاعه، فيما يبدو مترهلا في كثير منه.
بعض الأصوات التركية ترى أنه لمواجهة السلفية بتنويعاتها، خاصة الراديكالية منها، يجب إعادة تموضع الصوفية في المشهد السياسي بأن تتخلى عن إطارها النظري الوعظي، وتخلق لها كيانا سياسيا بالتوازي مع تفعيلها دينيا، بأن يواكب خطابها الإرشادي أسئلة الساعة والمعطيات الواقعة والمغايرة، والتحولات الدينية والمجتمعية.
أسلمة العلمانية
تمتلك تركيا مؤسسة علمانية قوية، ويخضع معظمها للقوانين العلمانية، والأتراك فخورون بإسلامهم المعتدل، لكونهم مدرسة متساهلة -نسبيا- ألا وهي “الحنفية” (نسبة للمذهب)، محافظة في الوقت نفسه على التقاليد الصوفية القوية، المتجذرة في المجتمع التركي. انطلاقا من هذه الرؤية، يرى البعض أن الوقاية من الصعود السلفي وتداعياته تكمن في الحفاظ على هذه الثوابت، التي -في نظر البعض- هي السبب الرئيس في الحصانة ضد السلفية والتطرف.
بيد أن التخوف يزداد من تآكل العلمانية ببطء، والتي ينظر إليها على أنها حاجز دفاع تركيا ضد التطرف. تتآكل بفعل التوجه الإسلامي القائم في السلطة (الإسلام الليبرالي)، ويجب تفعيلها على نحو أسلمتها وتوظيفها توظيفا لا يلغيها، إنما يدفعها نحو المسار الصحيح، وبهذه الطريقة ستكون محمية من الاستبداد العلماني، وأيضا إمكانية استخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، وهو الدفاع الوحيد ضد التطرف الناشئ في تركيا والعالم الإسلامي.
استنتاجات عامة
1- إن الحديث عن مستقبل –ما- للسلفية بتنويعاتها المختلفة خاصة التقليدية (الوهابية) والنسخة الأخرى الراديكالية منها في الداخل التركي، أمر بالغ الصعوبة ومعقد في آن معًا، إذ إن البيئة المجتمعية والدينية التركية التي شهدت خلال القرون السابقة حصانة ومنعة ومواجهة في أكثر من محطة فكرية وسياسية، من شأنها أن تمثل عائقًا كبيرًا وحاجزًا منيعًا، في أن تحفر السلفية لها نفقًا في الدولة التركية الحديثة، في الوقت الذي فشلت فيه إبان دولة الخلافة العثمانية.
2- النافذة الوحيدة التي من الممكن أن تطل من خلالها السلفية الوهابية في المشهد التركي، هي زيادة عدد المراكز الثقافية السعودية نتيجة التحالف السعودي التركي الجديد، والصاعد منذ تولي الملك سلمان السلطة، والتي من الطبيعي أن تلقي بظلالها على المشهد الديني التركي وحجم العلاقات الثقافية والدينية بين البلدين، والتي كان من بعض رمزيتها الأمر الملكي، بترجمة خطب الجمعة بالحرمين الشريفين، إلى اللغة التركية، للمرة الأولى منذ قيام دولة آل سعود ومملكتها القائمة.
3- الحديث عن علاقة –ما- بين الدولة التركية وتنظيم الدولة الإسلامية، أم لا، يمكن قبوله، وتنفيه الوقائع على الأرض، وإنما ما يهمنا في هذا المشهد أنه ليس من البعيد أن تسعى الدولة التركية إلى أن تستفيد من وجود التنظيم على الأرض في مواجهة حزب العمال الكردستاني، في حال فشل المصالحة المرتقبة التي تقودها الدولة مع عبدالله أوجلان وحزبه، بغرض إنهاك قوته وتشتيته، بهدف دفعه للقبول بإلقاء سلاحه والقبول بالمتغيرات الواقعة على الأرض، ولا يعني ذلك أن تقدم الدولة التركية وخاصة حكومة العدالة والتنمية تسهيلات للوجود الداعشي في الداخل، إنما ذلك يكون خارج حدودها بشكل براجماتي لا يؤثر سلبًا على الداخل التركي.
4- كما لم تؤثر الحالة السلفية بنسختها القاعدية في المشهد الديني التركي، ولم تكن له حاضنة مجتمعية تسهم في إنتاج أجيال تركية قاعدية. والحال نفسه ينطبق مع الحالة الداعشية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن صعود سلفي جهادي آخذ في طور التشكل بتركيا، أجده غير قابل للنمو والتحقيق.
5- الرموز السلفية التقليدية التي ظهرت منذ بداية الألفية الثانية، والتي ذكرت في الدراسة، يمكن اعتبارها حالات قائمة نتيجة التنوع الديني والثقافي، ولا يمكن التعامل معها كظاهرة مستقلة قائمة بذاتها، فالطرق الصوفية التركية تختلف بشكل كبير عن نظائرها في المنطقة العربية والمشرقية، بأن لها مريدين ولمشايخها دروسًا يحضرونها بالمئات، وتكتظ بهم المساجد، ويتحلقون حول مشايخهم بشكل منتظم ودقيق، لا يترك فراغًا أو ثغرة لأن يملأها مشايخ السلفية الوافدون على المجتمع التركي، وخاصة أن آليات الصوفية الدعوية تتقاطع -بشكل كبير- مع نظرائهم القليلين من السلفيين، بل يتفوقون عليهم فيما يشبهون جماعات التبليغ والدعوة السلفية، في طرق دعوتهم السيارة في الشوارع والطرقات والمناسبات الدينية وغيرها.
خلاصة من بحث: مصطفى زهران ‘معارك وهابية مع الدولة التركية’، ضمن الكتاب 106 (أكتوبر 2015) ‘تركيا والإرهاب والأقليات النَّوعية’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.
ميدل ايست أونلاين