تركيا في الحسابات الغربيّة.. مخابرات وعقيدة وعسكر
تركيا في الحسابات الغربيّة يعكس اختيار سفراء يتكلمون اللغة التركية، ويعتبرون ملمّين بشكل تام بالشأن التركي، الاهتمام الكبير الذي توليه واشنطن ولندن وباريس بالسياسات الحالية والمستقبلية لتركيا.
أكّد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال افتتاحه المبنى الجديد لجهاز المخابرات الوطنية (MİT) في إسطنبول، في 26 تموز/يوليو الماضي، “الدور المهم الذي أداه الجهاز في النجاحات العسكرية والسياسية التي حققتها أنقرة خلال السنوات الأخيرة، فأصبحت قوة إقليمية ودولية لا يستهان بها في كل المحافل والمجالات”.
جاء كلام الرئيس إردوغان تأكيداً على “عسكرة السياسة الخارجية التركية”، حيث يتواجد الجيش التركي في سوريا وليبيا وقطر والصومال والعراق وأذربيجان وأفغانستان والبوسنة، وذلك بالتنسيق والتعاون الفعال مع الاستخبارات التي تتبع مباشرة لإردوغان، حالها حال المؤسَّسة العسكريَّة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016.
وقد استغلّ إردوغان هذا الانقلاب وسخَّره خدمة لمشروعه الأكبر، ألا وهو تعديل الدستور، وتغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي في نيسان/أبريل 2017، فأصبح الحاكم المطلق للبلاد منذ ذلك التاريخ. وشهدت سياسات أنقرة الإقليمية بعد ذلك التاريخ تحولات مهمة جداً، أهمها المزيد من التدخل في سوريا، وبشكل خاصّ في ملف إدلب، وإرسال الجيش التركي إلى قطر في حزيران/يونيو 2017، وبعدها إلى ليبيا، مع المزيد من العمليات العسكرية في الشمال العراقي، وبناء القواعد العسكرية في الصومال.
وكان للمخابرات التركية، بحسب كلام الرئيس إردوغان، دور مهم ورئيسي في مجمل هذه الفعاليات، يضاف إليها دور داعم في دول وأماكن أخرى في المنطقة وأفريقيا، وبعض الدول الأوروبية أيضاً، وهو ما تحدث عنه الرئيس الفرنسي ماكرون، والمسؤولون الألمان بشكل خاصّ.
وكانت هذه المعطيات كافية بالنسبة إلى أميركا وفرنسا وبريطانيا، حتى تضع تركيا في أولويات اهتماماتها الاستخباراتية، مع تزايد الدور التركي العسكري والاستخباراتي إقليمياً ودولياً. كل ذلك بفضل شبكة العلاقات الواسعة التي أقامتها الأجهزة التركية المختلفة مع أعداد كبيرة من أتباع الرئيس إردوغان وأنصاره والموالين له في جميع أنحاء العالم.
وكانت المبادرة الأولى من الرئيس ترامب، الَّذي قام بتعيين جينا هاسبل رئيسة للمخابرات الأميركية المركزية(CİA) في أيار/مايو 2018. ومن المعروف عنها أنها تتكلم الروسية، وهي خبيرة بالشأن الروسي، كما أنها خبيرة بالشأن التركي، وهو ما يعني أن واشنطن أرادت أن تضرب عصفورين بحجر واحد، وخصوصاً أنَّ التعيين جاء بعد أستانا وقبل سوتشي، فقد عملت هاسبل في أذربيجان، ومن ثم شغلت منصب مساعد رئيس مكتب المخابرات الأميركية في أنقرة، وفي توقيت مهم جداً، حيث تعلَّمت اللغة التركية بشكل جيد.
وتحدثت المعلومات الصحافية عن دورها في عملية اختطاف زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، من العاصمة الكينية نيروبي في 14 شباط/فبراير 1999، بعد أن أدت دوراً أساسياً في عملية اعتقال عنصرين من القاعدة في أذربيجان، متهمين في تفجيرات السفارة الأميركية في كينيا وتنزانيا في 7 آب/أغسطس 1998، والتي شارك فيها أسامة بن لادن أيضاً.
ولم تقتصر “نجاحات” هاسبال على مساهماتها في هاتين القصتين، بل قيل إنها أدت دوراً مهماً أيضاً في نقل الداعية فتح الله جولان إلى أميركا بعد شهر من تسليم أوجلان إلى أنقرة، إذ قال رئيس الوزراء آنذاك بولنت أجويت: “لماذا قام الأميركيون بتسليمنا أوجلان بهذا الشكل؟”، لتثبت السنوات اللاحقة بأن أوجلان وجولان كانا، وما زالا، القضيتين الأساسيتين اللتين تشغلان بال الدولة التركية. ويبدو أنهما سيبقيان على هذا الحال ببقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة.
وجاءت زيارة هاسبال المفاجئة إلى أنقرة في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2018 لعدة ساعات، ولقاؤها الرئيس إردوغان، ليثبت استمرار اهتمامها بالملف التركي، إذ كانت الزيارة بعد أيام من مقتل الصحافي جمال خاشقجي في مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول. وكانت هذه الجريمة، وبعد المعلومات التي حصلت عليها هاسبال في أنقرة، ورقة مهمة في مساومات الرئيس دونالد ترامب مع محمد بن سلمان، كبداية على طريق ما يسمى بـ”صفقة القرن”، والاستسلام السعودي لعبودية واشنطن بعد التحالف التركي-القطري في حزيران/يونيو 2017، وتحت المظلة الأميركية، أي قاعدتي “السيلية” و”العديد”.
لم تكن واشنطن الوحيدة في هذا المضمار، أي اهتمامها بتركيا، فقد لحقت بها فرنسا وبريطانيا، طرفا اتفاقية سايكس بيكو، وما لحق بها من وعد بلفور، وحتى قيام الدولة العبرية، بدعم من أميركا، سيدة العالم الرأسمالي، بعد الحرب العالمية الثانية، فقد سبق الرئيس ماكرون واشنطن عندما قام في بداية العام 2017 بتعيين برنارد إيمي رئيساً لجهاز الاستخبارات الفرنسية الخارجية(DGSE) ، بعد أن خدم كسفير لبلاده في أنقرة للفترة 2007-2010، لينتقل منها إلى الجزائر، ثم لندن وبيروت وعمان، حيث أصبح مديراً لإدارة شمال أفريقيا في الخارجية الفرنسية.
ويتكلَّم إيمي التركية بطلاقة، وهو ذو خبرة عالية بمجمل سياسات تركيا الداخلية والخارجية، والتاريخ التركي عموماً، وهو ما قد يفسّر أقوال ومواقف الرئيس ماكرون ضد تركيا ومواقفه الشخصية ضد الرئيس إردوغان، إن كان في ليبيا أو قبرص واليونان وشرق الأبيض المتوسط، ودعمه للإسلاميين في أوروبا والعالم، وهو ما يعرفه السفير إيمي جيداً.
أما رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، وجَدّه من أصول عثمانية، فلم يتأخّر بدوره في هذا المجال، إذ قام في 30 تموز/يوليو الماضي بتعيين ريتشارد مور رئيساً لاستخبارات بلاده (Mİ6)، وسط اهتمام إعلامي وسياسي تركي كبير بهذا الاختيار، فقد عمل مور، وهو من مواليد طرابلس الغرب، سفيراً لبلاده في ماليزيا وباكستان ذات العلاقة المميزة مع تركيا، قبل أن يتم تعيينه سفيراً لبلاده في أنقرة للفترة الممتدة بين العام 2014 و2017، إذ أقام علاقات واسعة مع المسؤولين الأتراك بعد أن أتقن اللغة التركية. وتوقعت المعلومات الصحافية للعلاقات التركية – البريطانية، وهي مميزة دائماً، خلافاً للعلاقات مع جميع دول الاتحاد الأوروبي، أن تشهد تطوراً مهماً على قاعدة التنسيق والتعاون العسكري والاستخباراتي في عهد ريتشارد مور.
ويعكس اختيار هؤلاء الذين يتكلمون اللغة التركية، ويعتبرون ملمّين بشكل تام بالشأن التركي، الاهتمام الكبير الذي توليه واشنطن ولندن وباريس بالسياسات الحالية والمستقبلية لتركيا، والتي بات واضحاً أنها تعتمد على عنصرين أساسيين مكملين لبعضهما للبعض، وهما المخابرات والجيش، اللذان يعملان في إطار توجيهات الرئيس إردوغان العقائدية، إذ يرافق رئيس المخابرات الوطنية هاكان فيدان الرئيس إردوغان في معظم زياراته الخارجية.
بدورها، تراقب موسكو، وعن كثب، هذه السياسات الإردوغانية، نظراً إلى علاقتها بمجمل الساحات التي تلتقي أو تتعارض فيها مع أنقرة، وأهمها في سوريا وليبيا، ومن خلالها في باقي دول المنطقة، مع تحدي إردوغان للرئيس بوتين في أوكرانيا والقوقاز وآسيا الوسطى، وحتى جمهوريات الحكم الذاتي داخل حدود روسيا الفيدرالية، ويعيش فيها حوالى 25 مليون مسلم، ومعظمهم من أصول تركية.
وقد يكون هذا الاهتمام سبباً للأهمية التي يوليها الرئيس بوتين لمستشاره والمتحدث الرسمي باسمه، ديمتري بيسكوف، الذي تخرَّج من قسم اللغة التركية في موسكو، ثم عمل لفترة طويلة في السفارة الروسية في أنقرة، حيث أصبح ملماً بمجمل تطورات هذا البلد الجار الآن وفي العهد السوفياتي، فقد كانت تركيا خندقاً أمامياً للحلف الأطلسي وأميركا ضد الشيوعية، كما كانت الإمبراطورية الروسية العدو الأكبر للدولة العثمانية، وعلى الأقل حتى ثورة لينين الشيوعية في العام 1917.
ويعرف الجميع أنه لولا دعم هذه الثورة، لما استطاع أتاتورك أن يحقّق انتصاره على الدول الاستعمارية، وهي فرنسا وبريطانيا، ومعها اليونان وإيطاليا، وهو ما انتهى باتفاقية لوزان للعام 1923، بقيام الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وكأنَّ التاريخ يكرر نفسه دائماً، ولو بأشكال ونماذج أخرى أدت وتؤدي فيها أجهزة المخابرات أدواراً مهمّة قررت وتقرر وستقرر مصير الدول والشعوب، كما هو الحال الآن في الجغرافيا العربية التي رسم خارطتها شاب صغير اسمه لورنس، اشترى ذمم شيوخ القبائل الخليجية الذين ترفَّعوا من الولاء للمستعمر القديم إلى خدمة السيد الجديد “إسرائيل”، ومخابراتها هي الأدرى بكل أسرارهم!
وكما كانت “إسرائيل” على علم بكل أسرار تركيا، ومن خلال أتباع فتح الله جولان في الأمن والمخابرات التركية، والذين كان يتجسَّسون حتى نهاية العام 2013 على اتصالات جميع المسؤولين الأتراك، العسكريون منهم والسياسيون، وفي مقدمتهم إردوغان، الذي قال إنهم كانوا يتجسّسون حتى على غرفة نومه، فيما اتهم الإعلام الموالي لإردوغان جولان وأتباعه، تارة بالعمالة لأميركا، وتارة أخرى لألمانيا، وفي نهاية المطاف، “إسرائيل”، التي باتت على معرفة تامة بكل أسرار الدولة التركية وخفاياها.