ترهّـل المقهـى البيروتـي فـي زمـن العولمـة (احمد زين الدين)
احمد زين الدين
ما هي العلاقة التي تربط المقهى بالثقافة؟ والناس ما عرفوا المقهى إلا بصفته مكان عبور وانتقال أو استراحة مؤقتة. ولطالما كان موئلهم ومقصدهم للترويح عن النفس والتسلية وتزجية الوقت؟ ولماذا نحمله على المعنى الثقافي؟ أهو مكوّن من مكونات الثقافة؟ أم عامل من عوامل الانتاج الإبداعي؟ أم هو قرين الصحيفة أو المعهد أو دار النشر أو مركز الأبحاث؟
لا أحد طبعاً يمكن أن يعزو إلى المقهى كل هذه الأوصاف، وتلك الأعباء والوظائف جميعها. بيد أن الحديث عن وجود مقهى ثقافي خالص، هو عنوان افتراضي، بل هو من المجازات المرسلة التي تدل على فضاء مكاني ليس مقصوداً بحد ذاته، بقدر دلالته على من يشغله، أو يحلّ فيه من مثقفين يخالطون سواهم من رواد المقهى وزبائنه، ولكنهم يقيمون لأنفسهم نصاباً خاصاً بهم، أو يخلقون مناخاً متجانساً يجمعهم، ويتيح لهم أن يتواصلوا، وان يتبادلوا الأفكار والآراء، أو ان يتصفّحوا آخر الأخبار في الجرائد، أو يدوّنوا نصوصهم وخواطرهم، وما تفيض به قرائحهم. وهذه التسمية التي نخصّ بها هذه المقاهي، تجعل منها صنو الصالونات الأدبية، التي شاعت في حقبة ماضية في بعض أنحاء بلاد العرب، لا سيما في مصر التي اشتهرت بهذا النمط من المجالس.
والمقاهي الثقافية تقليد عرفته أوروبا منذ قرون، وخاصة باريس التي أنشأت أول مقهى ثقافي عام 1681 دُعي في ما بعد باسم le café de la Régence . وكان لاستقطاب هذه المقاهي نخبة فلسفية وفكرية وأدبية، فضل السبق بنشر الوعي، واختمار الثورات الاجتماعية والسياسية.
إذاً يُحمل المقهى على صفته الثقافية بحضور المثقفين فيه، ومباشرتهم دورهم، ويتخذ سمتهم وعنوانهم، ويمنحهم حالذاك، فرصة للنقاش. ويُنشئ بين الكاتب والمكان علاقة أثيرة، حيث يتحول المقهى إلى رحم يساعد على مخاض الكتابة. وهذه الحميمية خلقت عند البعض إحساساً بأنه أسير المقهى، كمكان جذّاب يمارس عليه سحره وغوايته.
باتت المقاهي طقساً من طقوس الكتابة عند العديد من الأدباء والشعراء. وشكّلت جزءاً من الذاكرة الجماعية للمبدعين اللبنانيين والعرب، وأماكن للحلم والإبداع. كُتّاب يدمنون على هذه الأمكنة ويؤثرون الكتابة على طاولة المقهى. فسحة من الوقت في مكان يراوح الجالس فيه بين إشرافه، من وراء الزجاج الشفاف على الفضاء البصري الواسع الذي يمتدّ أمامه: ناصية الشارع والساحة والسوق، وممارسته متعة التلصص على المارة. وبين انكفائه في ركن معزول وشخصي، هو بمثابة سانحة للتأمل والتخيّل وتوليد الأفكار والصور. وقد رصد الشاعر اللبناني زاهي وهبي أوضاع مدينته بيروت من خلف زجاج المقهى، انطلاقاً من مثابرته اليومية على الجلوس فيه، سابراً أغوارها، ومشخّصاً أحوالها ومزاجها في كتابه «قهوة سادة في أحوال المقهى البيروتي» وذلك عبر مماهاته بين روح المقهى وروح المدينة، بما هي مدينة الاجتماع والاقتصاد والفكر والسياسة.
ومثل كل المقاهي الحديثة، أضحت المقاهي البيروتية متماثلة في فضائها المكاني، وفي خدماتها وروادها واختلاطها بمطاعم الوجبات السريعة. لم تعد تحمل علاماتها الفارقة ونبض المكان أو الحي أو المدينة. وغلبت على هندسة المقهى الحديث الواجهات الزجاجية المفتوحة على الخارج، ليصبح أكثر فأكثر انكشافاً، وجزءاً من المحيط الذي يندمج المقهى به، ويكون الجالس فيه أقرب إلى ان يكون شاهداً، ومكانه أقرب إلى ان يكون حيّزاً لا ينفصل عن الفضاء العام. وهذا ما دفع الشاعر بول شاوول لوصف المقهى البيروتي، وهو من أعرق رواده، بأنه «جريدة حائط المدينة وناسها وخلفياتها وثقافاتها». وفيما رأى البعض في المقهى قلب المدينة ونسغها الحي. نسبها الشاعر جوزف عيساوي إلى مملكته الأسطورية، والشاعر شوقي بزيع إلى حاضنة قصائده. وعدّها آخرون محطة للتسكع والصعلكة، وملاذاً للمهمّشين والمنبوذين.
عقل بيروت
تمركزت المقاهي الثقافية البيروتية بمنطقة الحمراء. الحمراء عقل بيروت ورأسها ورأسمالها. واجتاحت المقاهي منذ ستينيات القرن العشرين أرصفة المدينة، وكانت نموذجاً وشاهداً على طغيان الحياة الحداثوية وتجلياتها الاجتماعية والثقافية، وتزامن ظهورها مع ازدهار حركة النشر وصدور المجلات الثقافية، وفي طليعتها مجلة «شعر» ومجلة «مواقف». ومع رسوخ قدم الصحف اللبنانية المعروفة، لا سيما «النهار» و«السفير» و«الحياة» في المجالات السياسية والأدبية، وارتفاع النبرة التحررية في حقل الكتابة السياسية والنشاط الحزبي. وبالمحصّلة، فإن انتشار المقاهي وارتياد المثقفين لها، كان ثمرة من ثمار النهوض الثقافي والاجتماعي، والوعي السياسي بالحرية والمساواة. والحال، انه نتيجة تنامي الحريات الإعلامية والسياسية التي سادت لبنان. أضحت عاصمته واجهة ثقافية استقطبت أدباء وشعراء وقادة سياسيين عرباً، يلتمسون في مقاهيها حريات، كان المثقف العربي غائباً عنها في بلاده التي تجوس فيها عيون المخابرات والعسس، وشكّلت المقاهي البيروتية التي كان يتردد عليها هؤلاء فضاء طليقاً للاحتجاج السياسي، ومساحة تعبيرية حرة.
وعرفت بيروت أول مقهى رصيف عام 1959 هو مقهى «الهورس شو» حيث قامت الممثلة نضال الأشقر عام 1969 بأداء مسرحية «مجدليون» لهنري حاماتي على رصيفه. وظهر في شارع الحمراء اوائل السبعينيات مقهى «الاكسبرس» و«الكافيه دي باري» والمودكا، والويمبي. أما مقهى «الجندول» فبات بسبب قربه من كليتي الآداب والتربية في الجامعة اللبنانية، مقر اجتماع لقياديي الحركة الطلابية عهد ذاك. وازدهر مقهى آخر على شاطئ البحر، هو «الروضة» المقهى الذي احتضن، رغم طابعه الشعبي التقليدي والعائلي، عدداً جمّاً من المثقفين والكتّاب اللبنانيين الذين كانوا يقطنون بيروت الغربية وضواحيها، أثناء الحرب الأهلية.
إلى عدد آخر من المقاهي المنتشرة حول الجامعة الاميركية في بيروت، وعلى رأسها مطعم «فيصل» الذي أسبغ عليه أساتذة الجامعة والأدباء اللبنانيون والعرب طابعاً ثقافياً، وطيفاً من ألوان الفكر القومي والعلماني واليساري.
دينامية ثقافية
والمقهى اللبناني على عراقته، لم يشكّل ملمحاً أساسياً في تكوين الجسم الاجتماعي. كما هي الحال في مصر مثلاً، حيث لعب المقهى دوراً هاماً في الحياة العامة والحياة السياسية، وفي المتون الروائية والشعرية. وتواتر ظهوره كموقع أو بؤرة حدثية في الأعمال السينمائية والدراما التلفزيونية. وصاغ نجيب محفوظ للمقهى في رواياته شخصية مكانية ذات أبعاد تشكيلية متميّزة بدلالاتها ومعانيها. وعلى حين غابت صورة المقهى اللبناني كإطار روائي غياباً ملحوظاً عن القصة اللبنانية. حضرت في القصيدة الشعرية باستحياء، رغم ان المقهى كان حاضنة لولادة قصائد عدد من الشعراء اللبنانيين.
إن المقاهي «الثقافية» البيروتية الباقية التي نجت من الإقفال أو الهدم، أو من تعديل وجهة استعمالها التجاري بتأثير حاجات السوق، إنما هي اليوم أمارة على أزمنة بيروت المنصرمة، أكثر منها دلالة على دينامية ثقافية راهنة. دينامية كانت ناشطة في حقبة من الزمن الماضي، قبل ان تترهّل وتتلاشى مفاعيلها. وكانت قد عبّرت عن تطلّعات وفعاليات ثقافية أثّرت في بعض مناحي التكوين الشخصي لجيل عايش تلك الحقبة، ونفض عنه الحزازات والولاءات المذهبية الضيقة، التي ينبعث أوارها من جديد. ولم تعد النقاشات الثقافية تشغل حيزاً من وقت روادها من الشباب، الذين يعيشون مرحلة ضمور في الحياة الثقافية بالمعنى الكلاسيكي، بعد ان حوّلت العولمة منظور الثقافة ومعناها وماهيتها، إلى ثقافة استهلاكية اجترارية، وإلى ما يشبه الثقافة المضادة بخطابها المتلعثم، وبتركيباتها اللغوية التي تنبذ الفصاحة بمعناها التقليدي. ومع تطور الحياة العصرية، وما طرأ على الاجتماع وأدواته ومفاهيمه، خضع المقهى بدوره الى جمالية هندسية منسجمة مع فضائه الحديث، ووظائفه المستجدّة التي لم تلحظ للنشاط الثقافي مكاناً في أرجائه، ولم يعد فضاء ملائماً، أو قادراً على منافسة فضاءات الثقافة المعولمة المفتوحة، ووسائلها المتعددة التي تستهوي الأجيال الشابة التي وجدت ضالتها في مواكبة العصر التكنولوجي، لما يوفر للملتقي خلف شاشات الحواسيب أو الهواتف النقالة، من دفق متواصل من المعلومات وبرامج الترفيه والتطبيقات الرقمية. شاشات تتيح له خيارات غير محدودة، وحرية في التنقل من فضاء إلى آخر، دون عوائق أو عراقيل. وإذا كان لا مناص من جلوسه في المقهى مع حاسوبه الشخصي، فإنه في هذه الحال، ينقطع عن دفء الصداقات التي كان يشيعها جو المقهى التقليدي.
بيد ان هذه المواكبة لمتطلبات العصر المفقودة في المقهى اللبناني، والتي يمكن ان تغيّر نمط العلاقة مع فضائه ووظائفه، نعثر عليها في أمكنة أخرى في العالم، حيث تتجاوب المقاهي الباريسية، على سبيل المثال، مع التطور التقني، فترتبط بمواقع الكترونية خاصة بها، وتتشعّب نشاطاتها واختصاصاتها. فثمة ما يُسمى بالمقهى العلمي الذي يهتم بالمسائل والابتكارات العلمية. كما هناك المقهى الفلسفي الذي أشرف عليه المفكر marc sautet عام 1992 ليدشّن من خلاله حلقات نقاش واسعة بين المختصين والجمهور، ولينشر حصيلته على الشبكة العنكبوتية، تشجيعاً لظاهرة الفكر النقدي الحر وديموقراطية الحوار، عوض ان يبقى هذا النمط من التكوين الفلسفي مقتصراً على نخبة ضئيلة من الباحثين.
وقد أفضت تحوّلات العصر، وتبدّل الأمزجة والقيم، إلى تعدّد أمكنة اللقاء بين المثقفين اللبنانيين من أدباء وشعراء وصحافيين وفنانين، وتوسّع الفضاء الأدبي اليوم إلى أمكنة جديدة. أمكنة اختارها هؤلاء، لتكون نقيض ثقافة المنابر التقليدية، مستبدلين منتدياتهم ومقاهيهم، بالحانات والمطاعم التي تحتضنهم في الليل، وتحتضن قصائدهم ونصوصهم الإبداعية، نذكر من بينها «جدل بيزنطي» و«درابزين» و«الدينمو» و«زوايا». حانات ومطاعم يختلط فيها صوت الشعر والأغاني واللحن الموسيقي، باحتساء الشراب، وقرع الكؤوس، وتذوّق الطعام. في لحظة تعبّر عن تجدّد الأزمنة والأذواق، وتعرية الحياة من رزانتها، والأمكنة من بهائها المصطنع.
صحيفة السفير اللبنانية