تسارُع وتيرة الهجمات واتّساع رقعتها: حرب استنزاف صامتة ضدّ الأميركيين
ارتفع عدد الهجمات التي تتعرّض لها القوات الأميركية ومواقع انتشارها في سوريا والعراق بشكل ملحوظ، في ترجمة فعلية لمفهوم «المقاومة ضدّ الاحتلال الأميركي»، الذي أعلنت دمشق دعمها له في مواقف عديدة، وجدّد التمسّكَ به الأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصرالله، في خطابه الأخير بمناسبة استشهاد القائدَين قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس. وعلى مدار الأسبوعَين الماضيَين، شهدت مواقع انتشار القوات الأميركية عمليات متواترة، حيث تمّ استهداف قواعد عدّة – بقذائف صاروخية وطائرات مسيّرة -، بينها «كونيكو» و«العمر» و«التنف» التي تشكّل حاضنة لفصائل «جهادية» على رأسها تنظيم «داعش»، الذي تتّهم دمشق، واشنطن، بدعمه لشنّ هجمات على مواقع الجيش السوري في البادية. ويشي الامتداد الكبير والتباعد الجغرافي للمواقع المستهدَفة، بمدى انتشار قوات المقاومة، التي تنفّذ عملياتها بشكل خاطف لتجنّب الانزلاق إلى مواجهة مباشرة تكون فيها الغلَبة للجانب الأميركي الفائق التسليح.
وخلال الشهرَين الماضيَين، كثّفت الولايات المتحدة عمليات تدريبها للفصائل التي تدعمها، فنفّذت مناورات مشتركة مع القوات الكردية، وأخرى مع الفصائل التي تحتضنها في منطقة التنف، كما استقدمت معدّات دفاعية بهدف تحصين مواقعها، خصوصاً بعد أن تمكّنت خمس طائرات مسيّرة من اختراق تحصيناتها في العشرين من تشرين الثاني الماضي. وتتمركز القوات الأميركية في 24 نقطة، بالإضافة إلى نحو 10 نقاط أخرى غير دائمة للمراقبة، في وقت لا تتوافر فيه إحصاءات دقيقة حول عدد الجنود الأميركيين الموجودين في سوريا، حيث تشير بعض التقديرات إلى أنه يُراوح بين 500 و3 آلاف جندي، وهو رقم غير ثابت، يرتبط تَغيّره بالعمليات الأميركية، وخطط الانتشار والتحصين، بالإضافة إلى الانتقال الدائم بين سوريا والعراق.
الهجمات المستمرّة التي تتعرّض لها القواعد الأميركية، التي يقع عدد منها في مناطق بعيدة عن السكان، يجعل عمليات رصدها بدقّة أمراً غير ممكن، خصوصاً في ظلّ التكتّم الإعلامي الأميركي، والطوْق الأمني والعسكري الذي يحيط بتلك القواعد، في وقت تكشف فيه هجمات أخرى على مواقع قريبة من السكان، أو كبيرة يصل صداها إلى أماكن بعيدة، استمرار الهجمات وتنوّعها. وبينما كانت واشنطن تنفي باستمرار تعرُّض مواقعها للاستهداف، وتعيد أصوات الانفجارات التي تُسمع في محيطها إلى «تدريبات عسكرية»، بدأت خلال اليومين الماضيين تنفيذ رميات صاروخية، ذكر «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة أنها استهدفت مواقع إطلاق صواريخ. ويترافق تصاعد هجمات المقاومة مع تزايد تحرّكات القوات الأميركية على الأرض، وعودة النشاط السياسي الأميركي إلى الساحة السورية، بعد فترة من الجمود والضبابية، وهو ما وازته أيضاً عودة نشاط تنظيم «داعش»، الذي تتّخذه واشنطن غطاءً لاستمرار وجودها في سوريا.
كانت واشنطن تنفي باستمرار تعرّض قواعدها للاستهداف لكنها بدأت أخيراً تقصف مواقع إطلاق صواريخ
وخلال الشهرَين الماضيَين، أعادت الولايات المتحدة تنشيط دورياتها في مناطق كانت قد انسحبت منها، وتمركزت فيها قوات روسية، بينها مناطق على تماس مع مواقع انتشار الفصائل المدعومة من تركيا. كما قدّمت الوعود لـ«قسد» ببقاء قوّاتها في هذا البلد واستمرار دعمها لـ«الإدارة الذاتية»، في وقت عملت فيه على إفشال الجهود الروسية التي كانت تهدف إلى وضع «قسد» على طاولة الحوار مع دمشق، لإنهاء أزمة المناطق التي يسيطر عليها الأكراد. وتستهدف الولايات المتحدة، من وراء ذلك، ضمان بقاء حالة «اللااستقرار» في المنطقة، خصوصاً أنها رفضت تمرير قانون كانت تنتظره «قسد» يهدف إلى تمكينها اقتصادياً، ليبقى مصير الأخيرة بيد واشنطن والدعم الذي تقدّمه لها، وآخر وجوهه تخصيص القسم الأكبر من مبلغ الـ177 مليون دولار المُعلَن عنه أخيراً لـ«الإدارة الذاتية»، فيما يذهب ما تبقّى لفصائل التنف.
الملاحَظ في الهجمات التي تشنّها قوات المقاومة، بالإضافة إلى المنطقة الجغرافية الواسعة التي باتت تغطّيها، تركيزها بشكل أساسي على التواتر، الأمر الذي يهدف إلى ضمان حالة عدم الاستقرار من جهة، وزيادة الضغوط على القوات الأميركية لجعل فاتورة بقائها في سوريا كبيرة، في ما قد يشكّل عاملاً حاسماً في دفْعها إلى الانسحاب ولو بعد حين. وممّا يعزّز ذلك الاحتمال هو النجاح في تنفيذ عدد كبير من الهجمات على الرغم من رفْع الأميركيين من وتيرة عملياتهم العسكرية والأمنية في محيط مواقع انتشارهم، واستقدامهم تعزيزات وأسلحة دفاعية نوعية، ما يعني أن المُهاجِمين تمكّنوا حتى الآن من تحقيق اختراق كبير للدفاعات الأميركية، التي ستجد نفسها مع استمرار هذه الهجمات، تخوض حرب استنزاف، في وضْع مختلف بشكل جذري عن السنوات السابقة التي كانت خلالها واشنطن محصّنة وبعيدة من الاستهداف.
صحيفة الاخبار اللبنانية