تسقط «جمهورية كأن» (علاء الأسواني)

 

علاء الأسواني

يقف رئيس الجمهورية في أوج أناقته داخل قاعة فسيحة، وقد بدا على وجهه تعبير رسمي متجهم وكأنه يعيش لحظة تاريخية فعلا، ويقف أمامه وزير الداخلية كما يقف الجندي أمام القائد. عشرات الكاميرات تصور وزير الداخلية وهو يقرأ النتائج الرسمية للاستفتاء. يبدأ بعدد الناخبين المسجلين ثم عدد المشاركين والذين قالوا نعم والذين قالوا لا، وأخيراً يهنئ وزير الداخلية الرئيس بفوزه في الاستفتاء بنسبة تزيد عن 90 في المئة.
هذا المشهد كان مقرراً علينا نحن المصريين فلم نعرف سواه على مدى عقود باستثناء العام 2005، عندما عدّل حسني مبارك عنوان المهزلة من استفتاء الى انتخابات رئاسية. طالما تساءلت: لماذا لا يوفر مبارك ملايين الجنيهات التي ينفقها من ميزانية الدولة في تلك الاستفتاءات ويعلن للشعب أنه باق في السلطة بالقوة لأن أحداً لا يستطيع اجباره على تركها؟ الديكتاتور يحتاج الى مسرحية يلعب فيها دور البطولة وحوله مجموعة كومبارس. يحتاج الديكتاتور الى قانون انتخابات وتعديلات دستورية ومراقبين وإعلاميين ولجنة عليا للانتخابات. الهدف تحسين شكل الاستبداد في الداخل والخارج. هذا التدليس الذي يبدأ من رئيس الجمهورية سرعان ما ينتقل كجرثومة المرض الى مؤسسات الدولة ثم الى المجتمع كله. بعد سنوات من الاستبداد يعيش المجتمع في «حالة كأن» فيبدو كل شيء وكأنه حقيقي بينما هو مزيف. نرى الرئيس يشكر الناخبين فيبدو وكأنه رئيس منتخب بينما هو ديكتاتور مزور. نرى مناقشات حامية في مجلس الشعب فيبدو المتكلمون وكأنهم ممثلون حقيقيون لإرادة الشعب بينما هم منافقون مزورون لا ينطقون بكلمة إلا بموافقة الرئيس وأجهزة الأمن. نرى اعلاميين وقورين في التلفزيون يبدون محايدين بينما هم ينفذون تعليمات ضابط أمن الدولة الذي يتولى تشغيلهم. مع انتشار «حالة كأن» تنشأ اللغة الرسمية للنظام التي هي مجموعة أكاذيب مغلفة بلهجة وقورة، لغة تعلم الشعب ألا يصدقها لأنها تعني بالضبط عكس ما تقول. اذا أكدت الحكومة أنها لن ترفع أسعار البنزين أدرك الناس أن البنزين الرخيص سيختفي حتى يضطروا الى شراء النوع الغالي. اذا أكدت وزارة الصحة انه لا وجود لأمراض الصيف أيقن الناس أن الكوليرا منتشرة. واذا أكدت الداخلية ان مواطناً انتحر أثناء التحقيق معه تأكد للجميع انه مات من التعذيب. بعد ذلك تنتقل عدوى «حالة كأن» من النظام الى المجتمع. ينفصل الشكل عن المضمون وينفصل الدين عن السلوك ويهتم الناس بصورتهم أمام الآخرين أكثر من اهتمامهم بمطابقة تصرفاتهم للمعايير الأخلاقية. «حالة كأن» جعلت المصريين ـ طبقاً للإحصائيات ـ من أكثر الشعوب حرصاً على أداء شعائر الدين ومن أكثرها أيضاً ممارسة للفساد والرشوة والتحرش الجنسي.
النظام السياسي يشكل العمود الفقري للمجتمع، بمقدوره دائماً أن يخرج من المواطنين أفضل أو أسوأ ما فيهم. اذا كان الحكم عادلا ورشيداً فإن إحساس المواطنين بالعدالة يخلق لديهم حافزا للعمل ولا يكونون مضطرين الى النفاق لأنهم يعلمون ان شرط الترقي هو الكفاءة وليس الولاء للنظام. اذا كان نظام الحكم ظالماً وفاسداً فإن المواطنين يتملكهم الإحباط ويفقدون إيمانهم بالعدالة وتنتشر بينهم الأنانية والسلبية والنفاق والانتهازية لأن هذه المهارات المنحرفة هي التي تكفل لهم التقدم. في «جمهورية كأن» تنشأ بين الشعب والنظام علاقات تبدو كأنها حقيقية لكنها مزيفة. الدولة تدفع مبلغاً ضئيلا للمدرس كأنه مرتب فيتظاهر بقبوله ثم يتظاهر بالعمل بينما هو يذهب للمدرسة من أجل التعاقد على الدروس الخصوصية. تدفع الدولة جنيهات قليلة للطبيب وكأنها مرتب فيتظاهر بقبولها لكنه يذهب الى المستشفى الحكومي ليوقع بالحضور ثم يزوغ ليعمل في مستشفيات خاصة تعطيه مرتبات حقيقية فيعمل فيها بجد. المحافظ يتفقد سير العمل في الهيئات عن طريق زيارات مفاجئة يعلم بها الموظفون سلفاً، حينئذ يبدو المحافظ وكأنه نشيط ويبدو العاملون وكأنهم في منتهى الكفاءة.
إن الاستبداد يؤدي دائماً الى تدمير طاقة المجتمع فتصاب قدراته بالشلل وتندر القيم الإيجابية، مثل الصراحة والشجاعة والأمانة، وتنتشر بدلا منها الفهلوة والنفاق والانتهازية. هكذا عاشت مصر تحت حكم مبارك فانتهت الى الحضيض. ثار المصريون وأطاحوا الطاغية وبدا أنهم قد شفوا، المصري الذي يهتم للغاية بنظافة شقته، لكنه في الوقت نفسه يلقي القاذورات في منور البيت وعلى السلم لأنه لا يشعر بأي انتماء خارج شقته، هذا المواطن السلبي المنكفئ على ذاته وأسرته رأيناه بعد الثورة ينزل مع أبنائه ليكنسوا الشوارع ويزينوها. المصري الذي كان لا يذهب أبدا للإدلاء بصوته ويعتبر يوم الاستفتاء إجازة يقضيها مع العيال رأيناه بعد الثورة يقف في الطابور أمام اللجان ساعات طويلة ليدلي بصوته. المصري الذي كان يخاف من دخول قسم الشرطة أصبح يتظاهر ويواجه طلقات الرصاص بصدره من دون خوف. إن الاحساس بالانتماء الذي فقده المصريون تحت حكم مبارك استعادوه بالكامل بفضل الثورة. المجلس العسكري السابق تحالف مع «الإخوان» من أجل الاكتفاء بتعديل الدستور القديم بدلا من كتابة دستور جديد حتى يحافظوا على نظام مبارك. أعضاء المجلس العسكري أصابهم القلق من مدى التغيير وعواقبه و«الإخوان» خانوا الثورة وتخلوا عن أهدافها من أجل تمكين الجماعة من مصر. المجلس العسكري السابق مسؤول عن تدهور أحوال المصريين والانفلات الأمني المتعمد ومذابح عديدة راح ضحيتها مئات المتظاهرين ولم يحاسَب أحدٌ عليها حتى اليوم. كان حكم «الإخوان» الوجه الآخر لنظام مبارك. حاول «الإخوان» استعادة جمهورية «كأن» لأنهم أصلا منفصلون عن الواقع، عاجزون عن رؤية الحقيقة، يعيشون في عالم افتراضي ويعتبرون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن الدين، ما يمكنهم من ارتكاب أبشع الجرائم وهم يظنون أنهم ينصرون الاسلام. ثم انحاز الجيش لمطالب الشعب وتم وضع خريطة طريق تحمس لها الجميع ثم تم اختيار أعضاء لجنة الخمسين التي بذل أعضاؤها مجهوداً مضنياً لكتابة دستور ديموقراطي يؤسس لدولة القانون، ووافق عليه المصريون بأغلبية كبيرة. على أننا نكتشف الآن أن السلطة الحالية ماا زالت تعيش في جمهورية كأن وما زالت تعتبر سياسات مبارك هي الأفضل في حكم مصر. ربما يكون هناك في السلطة من يريد إقامة ديموقراطية حقيقية الا انه من المؤكد ان عناصر لها ثقلها في السلطة الحالية تعادي الثورة حفاظاً على مصالحها ولديها شهوة ملحة للانتقام من الثوريين وهي تعمل وفقاً لمخطط لاستعادة نظام مبارك بالكامل.
الدولة المصرية تخوض حرباً ضد الإرهاب وواجبنا جميعاً أن ندعمها، لكن ثمة عناصر في السلطة حربها الأساسية ضد الثورة. وهي تستعمل الحرب ضد الإرهاب كذريعة للقضاء على الثورة والانتقام من الثوريين الذين أسقطوا كبيرهم مبارك وألقوا به في السجن. ما علاقة الحرب ضد الإرهاب بتعقب الثوريين وحبسهم سنوات بتهم ملفقة؟ ما علاقة الحرب على الإرهاب بتشويه سمعة الثوريين وانتهاك أعراضهم في التلفزيون؟ لماذا لا يتحرك النائب العام ضد الشتامين المأجورين الذين ينتهكون أعراض الثوريين في الفضائيات التي يملك معظمها فلول نظام مبارك؟ لمصلحة من يتم إلقاء خيرة شباب الثورة سنوات في السجن لأنهم تظاهروا سلمياً؟ ما قيمة الدستور الذي أنفقت مصر ملايين الجنيهات للاستفتاء عليه اذا كان من يحكم مصر الآن يعتبر الدستور مجرد زينة وينتهكه كل يوم؟ إن قانون الانتخابات الذي صدر منذ أيام انتهك الدستور في أكثر من موقع وتم تفصيله لمصلحة مرشح بعينه، وهو أكبر دليل على أن هناك قوى حاكمة تريد أن تعيد المصريين الى عهد مبارك. عن أي ديموقراطية يتحدثون بينما رئيس الجمهورية المؤقت قد تجاهل رأي مجلس الدولة صاحب الاختصاص وقام بتحصين اللجنة العليا للانتخابات؟ ألم يؤد تحصين اللجنة العليا السابقة الى اعلان فوز مرسي بالرئاسة قبل التحقيق في الطعون المقدمة ضده؟ ألم تدفن تلك اللجنة الطعون التي قدمها حمدين ضد شفيق في المرحلة الأولى؟ من الذي سيطبق شروط قانون الانتخابات على المشير السيسي؟ ما هي الجهة التي بمقدورها ان تكشف عن مصادر تمويل حملة المشير السيسي وتراقب التزامه بالحد الأقصى للإنفاق؟ كيف نتحدث عن تكافؤ الفرص بينما قنوات الاعلام الرسمية والخاصة لا همَّ لها إلا كيل المديح للسيسي ليل نهار، وشوارع القاهرة ممتلئة بملصقات الدعاية له؟. من يجرؤ على نزع صور المشير السيسي من الشوارع ومن يجرؤ على سؤاله عن ميزانية حملته ومن يمولها؟ ما الفرق بين ترزية القانون الذين فصلوا قانون الانتخابات الأخير وهؤلاء الذين صاغوا التعديلات الدستورية تمهيداً لتوريث جمال مبارك. المشير السيسي قام بدور بطولي لحماية المصريين من الإرهاب ومن حقه أن يترشح للرئاسة طبقاً للقانون، لكن ما يحدث الآن يعيد مصر الى المربع الأول وكأن ثورة لم تقم. إنها محاولة أخرى لصناعة شكل ديموقراطي زائف بينما المضمون استبدادي ومتفق عليه, يريدون استعادة «جمهورية كأن» لكنهم لن ينجحوا لأن إعادة المصريين الى حظيرة الخوف مستحيل. ملايين المصريين الذين واجهوا الرصاص والخرطوش والمدرعات وحملوا على أكتافهم الشهداء والمصابين لن يفرّطوا في حلمهم بالحرية. من وضع قانون الانتخابات ما زال يعيش في عصر مبارك. فليعلم ان معادلة مبارك لم تعد قابلة للتطبيق في بلادنا. أعداء الثورة في السلطة يعتقدون أنهم سيفعلون بالمصريين ما يريدون وستتولى أجهزة الأمن تأديب من يعترض. ها هي موجة الإضرابات تعم مصر كلها. هؤلاء المضربون هم صنّاع الثورة الحقيقيون وهم يطالبون الآن بحقوقهم التي ثاروا من اجلها. الثورة مستمرة ومنتصرة لأنها تنتمي الى المستقبل وأعداؤها يعيشون في الماضي. من يستطيع أن يوقف المستقبل؟
الديموقراطية هي الحل

صحيفة المصري اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى