تسلف الإخوان … تبني المحافظة والتَّشدد (حسام تمام)

 

حسام تمام


الرافد القطبي كان قوياً لدى الإخوان اللذين عاصروا الفترة الممتدة بين سنوات 1954 و1965 وقت ضرب المشروع الإخواني للمرة الثانية، فأسفر عن تيار خليط جمع بين ميول نحو العسكرة والسرية.

 كانت المملكة العربية السعودية في حالة صعود سياسي بفعل الفورة البترولية؛ ودورها في حرب 1973، في حين انكسر المشروع القومي الناصري بعد هزيمة 1967 ووفاة عبدالناصر السنة 1970، ثم الانفراجة التي عرفتها العلاقات المصرية السعودية بعد حرب 1973 على قاعدة التصدي للمد الشيوعي السوفياتي في المنطقة. ثم أن دور مصر الديني كان يتراجع هو الأخر حين شل دور الأزهر، وانسحب من المشهد الديني العربي والإفريقي أيضا لصالح النفوذ البارز، الذي بدأت السعودية تلعبه على صعيد نشر الوهابية خارج حدودها بما في ذلك مصر.
لقد بدا أن المشهد الديني في مصر كان هو الآخر بصدد الميل إلى سلفية في السلوك، فقد عمل عدد كبير من المصريين في السعودية والخليج عموماً؛ فتأثروا بنمط الحياة هناك وإلى مصر نقلو الكثير من مظاهره. والأهم من ذلك، نقلوا جزءاً كبيراً من التكوين الديني السلفي. لنلاحظ مثلاً كيف انتشرت اشرطة القران الكريم المسجلة بأصوات سعودية مثل الحذيفي والسديسي والعجمي لاحقاً لتحل محل كبراء القراء والمرتلين المصريين أمثال عبدالباسط عبدالصمد والحصري والمنشاوي وغيرهم.
وساهمت سياسة الباب المفتوح في عهد السادات بدءاً من السبعينيات في حالة من الانفتاح وإن تم على مراحل متزامنة، فالانفتاح السياسي الذي جاء مع تجربة المنابر في الاتحاد الاشتراكي العام 1976 كان قد تزامن مع انفتاح على الغرب (الذي أدي من ضمن ما أدى إليه إلى مسلسل السلام مع اسرائيل)، وسادت في مصر حركة إعلامية واسعة اهتمت خصوصاً بفتح عديد من الملفات السابقة لعهد السادات ومن ضمنها ملف الإخوان المسلمين المعتقلين.
لكن أهم أوجه الانفتاح كانت في المجال الديني بشكل خاص، فقد توفرت في تلك الفترة حرية في ممارسة التدين والتعبير عنه لم تكن معهودة سابقاً بسبب ظروف التجنيد الثوري التي قام عليها النظام التحديثي الناصري، وكان انفتاح المجال الديني إشارة إلى الرغبة في التنفيس عن حالات الاحتقان الشديد التي أعقبت الهزيمة في العام 1967 خاصة مع تراجع الثقة في المشروع القومي. هكذا توفرت بنية من الفرص ستسمح بولادة جديدة للحركة الإسلامية لكن بنفس سلفي واضح.
السلفية المصرية في جامعات مصر
لقد مثل شباب الجماعات الإسلامية من طلبة الجامعات المصرية، مع بادية السبعينيات، جيلاً إسلامياً كاملاً تعددت مسارات بناء المعتقد لديه، لكن على قاعدة اشتركت كلها في السلفية. فقد كان جيلاً تفتح مبكراً على تعددية في المراجع الفقهية والفكرية من مثل محمد الغزالي ومحمد أبو زهرة وسيد سابق ويوسف القرضامي وغيرهم كعيسى عبده والبهي الخولي وكمال أبوالمجد ممن كانوا يمثلون مدرسة الاعتدال والوسطية، إضافة إلى كتابات سيد قطب وأبي الأعلى المودودي في الفكر السياسي ومفهوم الثورة والتغيير الجذري.
لكنه بدا، بالرغم من ذلك وإضافة إليه، جيلاً، كما تشير إلى ذلك شهادات شخصيات مهمة في الإخوان، ذا تكوين سلفي بحت يقوم على المنهج السلفي الجدالي النقدي في مجال العقيدة والفقه، وهو تكوين تم بناؤه في سياقات داخلية وخارجية ممتدة.
فقد كان الدعم الذي تقدمه الهيئات الدينية السعودية الرسمية وغير الرسمية (هيئة كبار العلماء، ووزارة الأوقاف والشئون الدينية، أدارة الوعظ والإرشاد والإفتاء.. ) للجماعات الإسلامية في جامعات مصر إحدى قنوات العلاقات السعودية الإخوانية التي بقيت مستمرة وتمثل ذلك أساساً في طبع ونشر وتوزيع كميات هائلة لعناوين مختلفة من كتب السلفية والهابية.
واستفادت الاتحادات الطلابية في الجامعات من رحلات جماعية للحج والعمرة التي كانت أحد أهم الفكر الوهابي إلى مصر فكانت تعود معها وخلفها أرتال من الكتب الدينية الوهابية المجانية التي تحمل طابع "يهدى ولا يباع"، وقد ذهب في هذه الرحلات غير المكلفة معظم قيادات الجماعات الإسلامية وممثليهم بحيث كانوا يمكثون شهوراً فيما بين رمضان وموسم الحج فيجدون لدى علماء الوهابية السعودية ترحيبا وحظوة، وربما التتلمذ على يدي أكبر مشايخها، كابن باز والعثيمين، لدرجة اعتبارهم امتداداً لهم في مصر.
كما كان المكون السلفي في البيئة المصرية حاضراً، فجماعة أنصار السنة كانت قريبة جداً من الفكر الوهابي وكان مؤسسها حامد الفقي أول من نقل رموز السلفية والهابية إلى مصر. وسنجد أن أغلب من حاضروا لطلبة الجماعات الإسلامية في الجامعات كانوا ينتمون لهذه الجماعة.
ثم كانت المكتبة السلفية المهمة التي كان يملكها محب الدين الخطيب في القاهرة التي شكلت مصدراً هاما مد طلاب هذا الجيل بالأدبيات السلفية التي كانوا يتدارسونها بل ويعيدون طبعها ونشرها بأثمان زهيدة، يكفي أن نعرف أن سلسلة كتيبات صوت الحق التي أسستها الجماعة الإسلامية في القاهرة ساهمت في إعادة طبع ونشر الكثير من الكتب السلفية كان بعضها لرموز سلفية سعودية، مثلما كان بعضها للمصري عبدالرحمن عبدالخالق.
بدأت المسائل الفقهية المعتادة في الفكر الوهاب بالظهور في خلال هذه الفترة، كمثل العلاقة بين الرجل والمرأة ومسألة الفصل بينهما والموقف من الموسيقي والفنون بشكل عام وكذا الآداب، بل ووصولاً إلى كرة القدم. كما ظهر الضيق بالخلاف والمخالفين سواء من داخل الإطار السني أو من خارجه، فظهرت النقاشات والمعارك الفقهية بين شباب الجماعات الإسلامية وبين شيوخ في الأزهر وصل أحيانا إلى درجة إيهامهم بالممالاة؛ بل وبينهم وبين بعض الشيوخ اللذين واظبوا على الاستماع إلى علمهم كمحمد أبوزهرة. فغلبت روح المحافظة والتشدد في مواجهة الرؤية السائدة تجاه كل ما اعتبر ابتذالاً من وجهة النظر السلفية التي كانت تركز على مسائل الشكل والهدي الظاهر بنفس إهتمامها بمسائل العقيدة الأكثر تزمتاً.
ولم يكن تاريخ الدعوة منذ نشأة الحركة الإسلامية في العشرينيات قد طرح مسائل الخلاف بهذه الحدة. يكفي مثلاً أن ننظر إلى موضوع لباس المرأة الذي لم يكن حاضراً إلا ما تعلق منه بمحاربة مظاهر العري والإبتذال الذي تشترك فيه كل القوى الاجتماعية، بل إن نساء الإخوان وبناتهن كن يرتدين ملابس لا تختلف كثيراً عن ملابس المجتمع المصري المحافظ ويكتفين بإيشارب بسيط على الرأس (وكان هذا أحد موضوعات النقد التي وجهها الطلبة للإخوان لاحقاً)، لكن المزاج السلفي الذي أقحم في الساحة المصرية المجتمعية نقل حجاب المرأة ومن بعده النقاب السلفي إلى دائرة القضايا "الشرعية" الأساسية التي اعتبرت خلافية مع المجتمع كما مع الإخوان.
فظهرت فكرة "اللباس الشرعي" الذي كان مختلفاً في جامعة الإسكندرية أولاً حيث نشطت الدعوة السلفية بقوة بين الطلبة ومنه انتقل إلى جامعة القاهرة قبل أن يتم تعميمه على الجامعات المصرية ومنها إلى باقي المجتمع المصري. وهو نفس الجدل الذي كان يطال مسائل أخرى وإن بدرجة أقل مثل إطلاق اللحية بالنسبة للرجال أو التواجد جنباً إلى جنب مع الفتيات في المدارس والجامعات والقبول بهنَّ كمدرسات وأستاذات بل وحتى متابعة التلفزيون أو مشاهدة كرة القدم.
وعلى هذا النحو شكل الرافد السلفي بوابة أخرى للروح الانعزالية التي مثلت بدايات هذا الجيل في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. إذ توافقت مع اتجاه عام نحو المحافظة. بحيث أضيفت إليها رغبة عارمة في التغيير تحولت لاحقاً إلى سعي "أيديولوجي" لبناء مجتمع بديل على أساس من الإسلام.
فقد كانت خبرة العمل السري العسكريتاري القائم على ثقافة السمع والطاعة وقيم الجندية التي توارثها جيل من الإخوان، منذ سنوات ما قبل ثورة يوليو وتجربة النظام الخاص في المرحلة البناوية، حاضرة بقوة في المناخ المصري انذاك. ويعد مصطفى مشهور وكمال السنانيري من أبرز رموز النظام الخاص شبه العسكري. إضافة إلى الرافد القطبي الذي كان قوياً لدى الإخوان اللذين عاصروا الفترة الممتدة بين سنوات 1954 و1965 وقت ضرب المشروع الإخواني للمرة الثانية.
ولابد من التفريق بين "نوعين من القطبيين" اللذين أنتجتهم المرحلة القطبية: الأول هم اللذين أصروا على التمسك بأفكار سيد قطب حين عقدت الجماعة محاكمات داخل السجون في عهد عبدالناصر لتنقيح الأطروحة الإخوانية، وأبرز رموزها ممن فصلتهم الجماعة عن صفوفها أحمد عبدالمجيد عبدالسميع وعبدالمجيد الشاذلي، أما الثاني فهم مجموعة الإخوان الذين تأثروا بفكر سيد قطب لكنهم إنصاعوا للحركة التي قامت بها الجماعة لمحاصرة الأفكار القطبية التي اعتبرت خروجا عن خط المرشد الأول والمؤسس حسن البنا، لكنهم بقوا مع ذلك محتفظين بتوجهات.
وإن كانت لا تقول بالتكفير والجاهلية والحاكمية لكنها تخفف منها على نحو مسألة الاحتفاظ بأهمية وحدة الصف واستمرار الجماعة عبر "بناء الجيل القراني" الفريد والعزلة الشعورية في مجتمع ابتعد عن نص الإسلام الصحيح.
ويعد من أهم رموز التيار القطبي داخل الإخوان منذ تلك الفترة جمعة أمين وصبري عرفة الكومي. وهو ما سيؤدي إلى تيار خليط جمع بين ميول نحو العسكرة والسرية القطبية مهد لظهور ما نسميه التيار القطبي في داخل الجسم الإخواني، الذي سيسير وينمو ويستمر جنباً إلى جنب مع كبار الإخوان ممن عاصروا المرحلة البناوية والذين خرجوا من السجن كهولاً.

مستل من كتاب تسلف الإخوان … تآكل الأُطروحة الإخوانية وصعود السَّلفية (مكتبة الإسكندرية 2010)، تأليف: حسام تمام (باحث مصري في شؤون الحركات الإسلامية، توفى 26 أكتوبر 2011). ولتمام أيضاً كتابي: "مع الحركات الإسلامية في العالم – رموز وتجارب وأفكار" "تحولات الإخوان المسلمين تفكك الأيدولوجية ونهاية التنظيم".

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى