شكّلت «قمة فيلنيوس» لزعماء «حلف شمال الأطلسي»، والتي عُقدت في 12 تموز الماضي، فرصةً أخرى لتُظهر أنقرة «أحقّية» موقفها تجاه «الإرهاب» الذي يمثّله، وفقاً لها، «حزب العمال الكردستاني»، وامتداده المتجسّد في «قوات حماية الشعب الكردية» في سوريا، وخصوصاً في ظلّ ما لمسته تركيا من تراجُع في الاهتمام الدولي بالوضع في سوريا، لمصلحة الحرب الروسية – الأوكرانية. وممّا يجدر التذكير به، هنا، أن أحد أهمّ أسباب الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة، بعد انفجار أحداث «الربيع العربي»، هو انحياز واشنطن للقوات الكردية في شمال شرق سوريا، في وقت ترى فيه أنقرة في تلك القوات تهديداً لأمنها القومي. وإذ مثّل هذا الخلاف، أيضاً، أحد العوامل التي دفعت بالأميركيين إلى تزكية محاولة التخلُّص من الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إبّان الانقلاب الفاشل ضدّه في 2016، فقد عَرفت العلاقات التركية – الأميركية مذّاك توتّرات متعدّدة، أبرزها في خريف 2019، حين تمكّنت واشنطن من لَجم اندفاعة الجيش التركي وتهديده باجتياح منطقة شرق الفرات، لكنها سمحت له باحتلال شريط طويل يبدأ من تل أبيض، وصولاً إلى رأس العين بعمق 30 كيلومتراً، كانت تسيطر عليه «قوات سوريا الديموقراطية – قسد».
على أن الخلاف التركي – الأميركي شكّل حافزاً رئيساً لتقارب أنقرة مع موسكو، وكذلك لنشوء «منصة أستانا» (تركيا، روسيا وإيران). ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية التركية، بدا واضحاً أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يريد هزم إردوغان، وهو ما لم يتحقّق له. وفي وقت كان يُتوقّع فيه أن تبادر أميركا، بعد هذه الخيبة، إلى المصالحة مع تركيا، تمثّلت المفاجأة الكبيرة في سلسلة المواقف التي أطلقها الرئيس التركي، في مطلع تموز الماضي، وفي مقدّمها دعمه انضمام أوكرانيا إلى «الناتو»، والموافقة على عضوية السويد في الحلف، فضلاً عن تسليمه خمسة من قادة «كتيبة آزوف» الأوكرانية إلى كييف، وموافقته على افتتاح مصنع للمسيّرات التركية على الأراضي الأوكرانية. ويكاد يجمع المراقبون على أن «قمّة فيلنيوس» مثّلت محطّة فاصلة في مغادرة تركيا موقعها «الوسطي»، لتصبح أكثر تماهياً مع السياسات الأطلسية، ولا سيما الأميركية. ومع أن الصفقة التي يمكن أن تكون قد أُبرمت بين أنقرة وواشنطن ليست واضحة، ولا تزال تنتظر ترجمتها، إلّا أن الأنظار اتجهت إلى احتمال تراجع الولايات المتحدة عن رفض تحديث وبيع طائرات من طراز «إف-16» إلى تركيا.
غير أن ما كشفته صحيفة «يني شفق»، أول من أمس، يثير الانتباه ويسلّط الضوء على احتمال حصول تطوّرات في الشمال السوري في هذا السياق. وقد ظهر التحرّك في اتّجاه التسخين في سوريا، في أكثر من مؤشّر، منها غارات الطائرات الروسية على مواقع للمجموعات المسلحة في محيط إدلب، ووقوع اشتباكات بين الجيش السوري وتلك المجموعات في أكثر من نقطة على خط المواجهة، واقتراب الطائرات الروسية والأميركية بعضها من بعض في السماء السورية، فضلاً عن تكرار القصف الإسرائيلي شبه اليومي لدمشق ومحيطها. كذلك، لا يمكن فصْل إرسال الولايات المتحدة ثلاثة آلاف جندي إلى منطقة الخليج، عن ضغوط واشنطن على طهران في سوريا، فيما بات معلوماً قيام الولايات المتحدة بتشكيل جيش من القبائل العربية في شرق الفرات يقارب عديده الـ 2500 عنصر، بهدف نشره في مناطق دير الزور، والمناطق الحدودية بين سوريا والعراق، وقطع خطّ الإمداد والتواصل الذي يستفيد منه «محور المقاومة» بين البلدَين. على أن هذه المساعي حظيت أيضاً بتفسير موازٍ، عنوانه أن واشنطن تريد تقليص حضور المقاتلين الأكراد في إطار الاتفاق المفترض بينها وبين أنقرة، وهو ما أنبأت به كذلك موافقة «الأطلسي» على إنشاء «مركز تنسيق لمكافحة الإرهاب»، والتعهّد بدعم تركيا في مواجهة الإرهاب، للمرّة الأولى في تاريخ الحلف، بعدما خاطب إردوغان، زعماء «الناتو»، مطالباً إيّاهم بالتخلّي عن دعم «العمال الكردستاني».
إزاء ذلك، يقول الكاتب بولنت أوراق أوغلو، في صحيفة «يني شفق» الموالية لإردوغان، إنه بعد مرور 13 عاماً على الحرب السورية، يعاد خلط الأوراق هناك في إطار خطّة أميركية جديدة، ظهرت معالمها أولاً في نشر حوالي 3000 مسلّح على خط دير الزور – التنف في إطار قطع إمدادات إيران من العراق إلى سوريا.
ويضيف الكاتب إنه «من أجل ذلك، أَرسلت الولايات المتحدة وفداً إلى أنقرة، فيما الخطّة الجديدة تتضمّن سحب المسلّحين الأكراد من دير الزور وتل رفعت ومنبج إلى قلب شرق الفرات وإحلال قوات من الجيش الوطني (الجيش السوري الحر) محلّهم، في مواجهة قوات النظام السوري وحلفائه». ويلفت الكاتب إلى أن «الخطّة تحظى بدعم الدول الخليجية، ومن أهدافها قطْع طريق إيران إلى سوريا عبر الأردن»، معتبراً أن «نتائج اتفاق فيلنيوس بين أنقرة وواشنطن بدأت تظهر، وربّما يكون التباطؤ في تسريع التطبيع بين دول الخليج وإيران أحد مؤشراتها».
وينقل أوراق أوغلو عن قادة في «الجيش السوري الحر»، قولهم إنهم «سيكونون حيث يكون الجيش التركي. ويمكن حتى فتح طريق حلب، وإعادة ثلاثة ملايين لاجئ اضطرّوا إلى النزوح عن المدينة، من أصل خمسة ملايين». ووفق مصادر «الجيش الحر»، فإنّ قادته أبلغوا الأميركيين أن تركيا وليس «حزب العمال الكردستاني» يجب أن تكون المخاطِب للأميركيين، وأنهم أبلغوا واشنطن أنه لا يمكن الوثوق بالـ«الكردستاني»، لأنه «شريك إيران والرئيس الأسد». وتضيف المصادر إن «إيران حوّلت سوريا إلى مستعمرة على كلّ الأصعدة الثقافية والدينية والتعليمية، والأراضي والمنازل»، وأنه بات «من الضروري إنقاذ سوريا من إيران، لكن ذلك لا يكون بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني».
في السياق نفسه أيضاً، يمكن تفسير اختيار إردوغان متين غوراق رئيساً جديداً للأركان، وتجاوزه بذلك الأعراف العسكرية بالقفز به مباشرة من الرئيس الثاني للأركان إلى رئاسة الأركان، من دون المرور ولو بمرسوم شكلي في منصب قائد القوات البرية. وفي ما تقدّم، رسالة واضحة إلى الولايات المتحدة وسوريا وإيران، كون غوراق كان قبل تعيينه في المنصب الجديد (سيتسلّمه في نهاية الشهر الجاري) مسؤولاً عن العمليات العسكرية التركية لمكافحة «حزب العمال الكردستاني»، وتحديداً في شمال سوريا وشمال العراق، إضافةً إلى أنه يتحدّث اللغة العربية (ينحدر من مدينة ماردين)، وهو ما أشارت إليه ديديم أوزيل تومير، في صحيفة «حرييات»، في عنوان مقالها الأخير: «الجنرال النشط الذي يعرف العربية في رأس القيادة».