تضارب المصالح الدولية في المفاوضات النووية الإيرانية
يصعب توصيف ليالي فيينا باعتبارها «أُنساً» على المتفاوضين الإيرانيين والغربيين كما شدت الراحلة أسمهان، مثلما يفتقر إلى الدقة وصف تلك الليالي بالقلقة، ولكنها بالتأكيد ليالٍ صعبة على الأطراف المتفاوضة كلها. ومرد الصعوبة ليس ركام القضايا التقنية والسياسية والاقتصادية التي تفصل مواقف الأطراف، وإنما تضارب المصالح في ما بينها جميعاً. وفي حين تدور المفاوضات اسمياً بين إيران في مقابل الدول الست أميركا وروسيا والصين وانكلترا وفرنسا وألمانيا، إلا أنها تدور فعلياً وفي العمق بين إيران وأميركا. لا تدع الابتسامات الديبلوماسية التي يوزعها المتفاوضون على الكاميرات، ولا المبنى الفخم لفندق كوبورغ الشهير في النمسا المشيد في العام 1840 على الطراز النيوكلاسيكي، ينسيانك أن التفاوض يشكل مرحلة جديدة من مراحل الصراع على الحضور والنفوذ في المنطقة بين إيران وأميركا. ولا تجعل شكل طاولة المفاوضات المستطيلة ذات الخشب البني اللامع، حيث يجلس الوفد الإيراني المفاوض قبالة ممثلي الدول الست الكبرى، يحجب عنك حقيقة جوهرية مفادها أن هناك تناقضات مستترة في مواقف الأطراف الجالسة في مواجهة إيران. تقليب النظر في مصالح الأطراف المختلفة سيجعلك تخرج بانطباع مغاير، حيث يلعب خمسة أطراف (عدا إيران وأميركا) دور المسهل أو المعرقل للمفاوضات، كل وفق حساباته.
حسابات روسيا
هدفت تصريحات لافروف الخاصة بقرب التوصل إلى اتفاق شامل (باقي نصف خطوة فقط) قبل أيام إلى تحميل أميركا المسؤولية المعنوية في حال فشلت المفاوضات، لأن لافروف يعلم صعوبة التوصل لاتفاق شامل، ولأنه لا يريد اتفاقاً شاملاً في الواقع! تدور حسابات روسيا في المفاوضات النووية حول الاعتبارات التالية: أولاً من شأن استمرار الانشغال الأميركي بالملف النووي الإيراني أن يشتت انتباه الجالس في البيت الأبيض بين مواجهة روسيا في أوكرانيا والملف النووي الإيراني، فتصعب مهمة أوباما في التصعيد ضد روسيا وفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية الغربية عليها. ثانياً، تعاقدت روسيا مع إيران لبناء مفاعلات نووية جديدة قبل عشرة أيام، وبالتحديد خلال فترة المفاوضات الماراثونية بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره الأميركي جون كيري. ومعنى هذه المفارقة أن روسيا تريد تصليب الموقف الإيراني في المفاوضات؛ بغرض قطع الطريق على تنازلات إيرانية محتملة، وبالتالي عرقلة الوصول إلى اتفاق شامل اليوم. ثالثاً والأهم، تعرف روسيا أنها ستكون ضحية الاتفاق الإيراني – الأميركي في حال نجاح المفاوضات النووية وتطبيع العلاقات بين طهران وواشنطن، لأن من شأن ذلك أن تعود إيران إلى لعب دور العازل الجغرافي لروسيا عن المياه الدافئة، وهو دور برعت فيه إيران لعقود طوال.
حسابات الصين
عكست التصريحات «المتفائلة» للمندوب الصيني في المفاوضات قبل أيام قلقاً من التوصل إلى اتفاق شامل بين إيران والغرب، ومرد ذلك أن هذا الاتفاق سيسهل تطبيع العلاقات الاقتصادية بين إيران وأميركا، ما يضرب مصالح الصين لمروحة من الأسباب. أولاً، تعد إيران أحد كبار موردي النفط للصين في العالم (تنافسها في ذلك السعودية)، وهو اعتبار له شأنه في اعتبارات الأمن القومي الصيني. ثانياً، كلما توترت علاقة واشنطن وطهران، زادت أهمية الصين كحليف دولي في العيون الإيرانية، لأن من شأن اصطفاف روسيا والصين إلى جانب إيران ديبلوماسياً أن يقوض الجهود الأميركية الرامية إلى اعتبار أن مطالب إدارة أوباما هي مطالب «المجتمع الدولي» باعتبار أن الصين وحدها تشكل نسبة معتبرة من سكان العالم. ثالثاً من شأن التصعيد المحتمل في الملف النووي، سواء بفرض عقوبات مغطاة من مجلس الأمن لانتزاع تنازلات جوهرية من إيران، أن تحسب أميركا وإيران ودول الخليج العربية حساباً للفيتو الصيني في مجلس الأمن، فتنهال العروض على الصين لمنعها من /أو لحثها على استخدام حق النقض. رابعاً، أدت العقوبات الاقتصادية على إيران، ومحاصرتها استثمارياً، وامتناع شركات النفط الدولية الغربية عن الاستثمار في قطاعها النفطي، إلى اتاحة الفرصة أمام الصين للدخول إلى هذا القطاع المهم عبر شركتها العملاقة المملوكة للدولة، «سينوك». ومن شأن التوصل إلى اتفاق نووي وتطبيع العلاقات بين طهران وواشنطن أن يدفع الشركات النفطية الأميركية إلى السوق الإيراني معززة بتفوقها التكنولوجي في مجال التنقيب والاستكشاف والاستخراج على التكنولوجيا الصينية، فتخسر الصين العطشى لموارد الطاقة اقتصادياً ونفطياً السوق الإيراني. لكل هذه الأسباب، لا ترغب الصين في رؤية اتفاق شامل بين إيران والغرب يتحقق، ولكنها تطلق التصريحات المتفائلة على لسان ممثلها في المفاوضات وتترك روسيا الراغبة في استعراض عضلاتها الدولية لتندفع في مواقفها المتصادمة مع المواقف الأميركية، فتتلطى بسلاسة وراء موسكو، لأنها لا تريد مواجهة صريحة مع واشنطن لاعتبارات متعددة.
حسابات انكلترا
تعد لندن الأقرب إلى المواقف الأميركية في المفاوضات النووية بين إيران والدول الست الكبرى، ولانكلترا مصالح نفطية تاريخية في إيران (شركة النفط الأنغلو – فارسية التي تحولت لاحقاً إلى «بريتيش بتروليوم»)، وفي الوقت نفسه، لانكلترا مصالح مماثلة وربما أكثر في دول الخليج العربية. على ذلك لا تريد لندن تزعم مواقف راديكالية سواء مع الاتفاق أو ضده، فلم يظهر وزير خارجيتها أمام الكاميرات إلا في حالة الضرورة.
حسابات ألمانيا
في كل الأحوال، ألمانيا سعيدة بوجودها إلى جانب الدول الخمس (الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن) في المفاوضات مع إيران، لأن ذلك يرفع معنوياً من مكانة ألمانيا الدولية ويحسن صورتها ويقربها من حلمها بالانضمام إلى الأعضاء الدائمين في حال توسيع العضوية في مجلس الأمن خلال الأعوام القادمة. على ذلك، فألمانيا رابحة من إبرام اتفاق شامل أو حتى تمديد المفاوضات. ولكن فشل المفاوضات سيمنع ألمانيا من استثمار المفاوضات لتحسين صورتها الدولية، لذلك فقد توسطت ألمانيا – إلى جوار سلطنة عُمان – مرات عدة خلال الفترة الماضية وبشكل غير معلن بين الأطراف المتفاوضة. ولألمانيا مصالح اقتصادية كبرى في إيران، وحتى مفاعل بوشهر كان ألماني الصناعة وبنت أساسياته شركة «سيمنس» الألمانية قبل انتصار الثورة الإيرانية. تأمل ألمانيا في نجاح المفاوضات، وبالتالي تطبيع العلاقات بين إيران والغرب والعودة إلى الأسواق الإيرانية ومن ورائها إلى أسواق آسيا الصاعدة باستخدام إيران كمحور ارتكاز.
حسابات فرنسا
ظهرت فرنسا باعتبارها أكثر الأطراف تشدداً حيال إيران بين الدول الست المتفاوضة، ويرجع هذا التشدد إلى رغبة باريس في تحسين علاقاتها الشرق أوسطية مع الدول المتضررة من حدوث اتفاق مثل دول الخليج العربية واستدراج عروض اقتصادية وتسليحية منها. ولا يخفى هنا أن هناك علاقات سعودية – فرنسية متنامية في السنة الأخيرة على خلفية التوتر في العلاقات السعودية – الأميركية بسبب المواقف الأميركية من إيران، والتي تعتبرها السعودية مهادنة للغاية. ومن جهة أخرى، تريد باريس إسداء خدمة إلى إسرائيل ولوبي الضغط الإسرائيلي في فرنسا، من أجل تخفيف الضغط على الأداء الاقتصادي والسياسي للرئيس فرانسوا أولاند، عبر التشدد في المفاوضات. اللافت في هذا السياق أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري زار باريس قبل أيام قليلة تاركاً المفاوضات في جنيف ليلتقي بنظيرَيه السعودي والفرنسي، في ما يبدو كطمأنة للدولتين من عدم تساهل أميركا مع الملف النووي الإيراني والاستماع إلى رؤيتَيهما لتطور المفاوضات من المنظور السعودي والفرنسي. ما زالت هذه السطور تعتقد بأرجحية تمديد المفاوضات (السفير – مصطفى اللباد: الملف النووي الإيراني: سيناريو الجولة المقبلة 10/11/2014)، عبر الإعلان عن إعلان مبادئ أو اتفاق جزئي يستكمل بمزيد من المفاوضات. والاحتمالات لنتيجة اليوم هي: نجاح المفاوضات بتوقيع اتفاق شامل 25 في المئة، تمديد المفاوضات عبر إعلان مبادئ أو اتفاق جزئي 70 في المئة، الإعلان عن انتهاء المفاوضات بالفشل 5 في المئة.
صحيفة السفير اللبنانية