تـنـظـيـمـات لـزمـن آت! (ميشيل كيلو)

 


ميشيل كيلو


يطرح بعض مثقفي المعارضة السورية أفكارا متنوعة حول ضرورة تأسيس حزب سياسي جديد يعبر عن جديد الثورة وأهدافها، في الزمن السوري القادم. ويدور حوار حيوي بين مؤيدي ومعارضي هذا التوجه، تسوغه أهمية ما يقع اليوم على ارض الواقع من ثورات قامت بها قطاعات واسعة من المجتمعات، ولم تبادر إليها أو تعدها نخب أو طلائع أو أحزاب أو مجموعات عسكرية، او نقابات… الخ.
وكان لينين، الذي يعتبر أحد كبار استراتيجيي التاريخ، وواحدا من اعظم قادة ثوراته، قد حدد الشروط التي تجعل تأسيس التنظيمات الحزبية مبررا وواعدا بالنجاح، وقال إن أهمها اطلاقا أن تكون هناك حاجة تاريخية إلى الحزب، وأن يتوفر له حامل اجتماعي/ طبقي تاريخي يمتلك برامج تجيب على اسئلة الواقع وتعد مجتمعه بتغيير شامل يتخطى مصالحه الطبقية الخاصة ويمكنه من استقطاب أعداد كبيرة من الانصار والمؤيدين من خارج الطبقة التي يمثلها، ومن تعبئة قوى وفئات مجتمعية واسعة، وإقامة تحالفات لا تتعارض مع هدفه الاستراتيجي، الذي هو: تنظيم ثورة تسقط النظام القائم في الدولة والمجتمع وتقيم نظاماً اشتراكيا بديلا له.
بما أن ثورة الربيع العربي لم تُحمَل من طبقة او حزب طبقي، فإن تأسيس أحزاب تعبر عنها يبدو مسألة مؤجلة او شديدة الغموض والالتباس، ليس فقط لان الثورة لم تأخذ شكلها النهائي بعد، بل لأن احدا لا يعرف كذلك ان كانت ستسقط النظام القائم وستقيم نظام حريات بديلا له، وطبيعة وأشكال التعبير التي ستتبناها الفئات المجتمعية المختلفة، وما إذا كان سيوجد حقا حامل تاريخي ومجتمعي جديد لها في مجتمع لم يتطور بعد الى حد جعله يقيم فواصل واضحة بين فئاته وطبقاته، تغلب عليه الفئات البينية، بينما تشكل طبقتا المجتمع الحديث: الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية، نتوءين صغيرين على جانبيها، فهما واحدة فوقها واخرى تحتها او تختلط معها، الامر الذي يجعل وجود الطبقة افتراضيا اكثر منه فعليا وواقعيا، ويجعل من الصعب جدا بناء احزاب «طبقية» تستند إليه.
هذه الملابسات والغوامض ليست كل شيء تجب مناقشته عند معالجة مسألة تأسيس الأحزاب. في نظري، ثمة موضوع رئيس يتقاطع مع هذه الاشكالية هو التالي: هل نكرر، بعد التجربة التاريخية الفريدة التي نمر بها، بفضل ثورة الربيع العربي المجتمعية الطابع، التي قادها ونظمها شباب غير مؤدلج وغير منتم الى تنظيمات سياسية، نمط تكوين الاحزاب الذي عرفناه عند عشرينيات القرن الماضي، وقام على وجود وجهود نخبة تمثل قلة وضعت برنامجا خاصا بها وعلى مقاس مطالبها وحاجاتها اجتذبت اليه أشخاصا متنوعي المشارب، خاضت بهم معارك سياسية تركزت اساسا على السلطة بوصفها مسألة السياسة المركزية. بمرور الوقت، ضمر ما كان لها من طابع مجتمعي هزيل، ثم تلاشى بمرور الوقت نتيجة انصرافها المتعاظم إلى سياسات فوقية تجاهلت المجتمع اكثر فاكثر، ولم تعتبره جهة يمكن ان يكون دورها فاعلا في الشأن العام. بمرور الوقت، تشابهت ابنية هذه الأحزاب بسبب منبت أعضائها الاجتماعي وأنماط وعيها الغريب عن مشكلات الواقع الحقيقية، وتقارب موضوعاته ومطالبه السلطوية وانشطتها وممارساتها العملية، بتوجهها الاحادي الجانب إلى سياسات تخلو من فكرة الحرية وتطبيقاتها العملية، ومن رهان تاريخي حقيقي، وبافتقارها الى رؤى استراتيجية تستحق اسمها، غلب على مواقف هذه التشكيلات الحزبية طابع تكتيكي أقرب إلى «النطوطة» منه الى تطبيق متماسك لرؤية سياسية بعيدة المدى وذات عمق تاريخي ومجتمعي راسخ، فلا عجب أن تمكن الخارج والعسكر من التلاعب بها، ولا غرابة في انها تبنت «ثقافة» استبدادية خلت بصورة تكاد تكون مطلقة من فكرتَي المواطنة وما يترتب عليها من بناء سياسي لحمته وسداه الحريات العامة والخاصة وسيادة القانون، وجافت مفهوم وواقع المجتمع المدني بما هو مجتمع مواطنين احرار تمثل السياسة التكثيف الرفيع والواعي لمصالحه، فهي تستند إليه وتنبع من فاعليته ومصالحه. أخيرا، لا عجب ان احزابا كانت متناقضة الخطابات والأبنية تقاربت وتآلفت وتلاحمت تحت مظلة نظم استبدادية نمت كالفطر في كل مكان من وطن العرب، اكتسبت جميعها طابعا موحدا على وجه التقريب تساوى فيه الاسلامي مع الشيوعي والبعثي والليبرالي، ومنح الاولوية لسلطة رأت فيها جهة انها يجب أن تعيد انتاج المجتمع وفق احتياجاتها ومصالحها وسيطرة الممسكين بها كي يصير مجتمعا متقدما وحديثا وعادلا، دون أن تضع في حسبانها أن فساد هذه السلطة سيفسد كل شيء، وسيقوض ما في المجتمع من أسس تنحو نحو التقدم والعدالة والمساواة. لم يكن هذا النزوع الى سلطنة الشأن العام والسياسة، وبالتالي إلى الاستبداد، من فعل حزب بعينه بل كان نتيجة مباشرة لإلحاق المجتمع بالسلطة وإخراجه من الشأن العام، ولعدم وجود قوى منظمة تقوم برامجها على حرية الإنسان كمواطن مجتمع مدني، وبالتالي دولة ليس من مهام وحقوق السلطة تقرير هويتهما واحتلال الاولوية فيهما وإعادة انتاجهما بالطريقة التي تختارها.
هذا ما آل اليه مصير احزاب نخب تصارعت على السلطة أو في إطارها، حتى عندما كانت «احزابا جماهيرية» كحزب «البعث» وضمت قطاعات واسعة نسبيا من الناس، لكنها عاملتهم كحاشية أو كماشية واتباع لا كحملة احرار لرؤى وخطط سياسية مجتمعية الاولويات والمقاصد، من الضروري أن يكونوا مبادرين وعلى قدر من الوعي يتيح لهم فرز الغث من السمين، والاستقلال عند الضرورة حتى عن أحزابهم، ومقاومة ما قد ترتكبه قياداتها من اخطاء وتصحيحها. والآن، أليس هذا ما سيؤول اليه مصير الاحزاب الجديدة ان هي كونت نفسها انطلاقا من نخب، اي من فوق، لانها لن تلبث ان تنخرط في العقليات والابنية المؤدية إلى المسار والمصير عينهما، اللذين افضيا الى الاستبداد الضارب ببلاياه الخطيرة على مجتمع في طور التكوين، افتقر الى خبرات سياسية وثقافية حديثة ووعي مطابق لحاجات لم ينجح يوما في تعريفها او تحديد حوافيها وسبل تحقيقها بقدراته الذاتية، ولم تكن حريته يوما مشروعه الذاتي والخاص؟
هناك فارق جوهري بين ظروف تشكل الأحزاب في عشرينيات القرن الماضي وبين ظروف وشروط تشكيلها اليوم، ليس فقط من حيث انتشار الأمية وتكون الطبقات البينية ووجود شيء من التصنيع والتحديث الزراعي والتجاري، وتشكل نظام السوق، والاندماج المجتمعي، والتطور الفكري والثقافي… الخ، بل كذلك من حيث الحدث الأبرز في تاريخ سوريا، المتمثل في الثورة التي اطلقها المجتمعان المدني والأهلي، مباشرة ودون وساطة أو قيادة من أي تكوين سياسي، والتي جاءت خارج أي نسـق أيديـولوجي أو سياسي سبق أن عرفناه في اي وقت، ووضعـتنا أمام معادلة على قدر عظيم من الأهمية، تتضمن اسئلة تحتاج إلى أجوبة لا نملك بعد مفرداتها، تتصل بنمط التعبيرات المنظمة التي ستنشأ انطلاقا من الوضع الجديد، وهل ستكون من نمط الأحزاب النخبوية التي تبنى من فوق لتحت، أم انها ستكون من نمط جديد يبنى من تحت لفوق، وهل ستكون مرجعياتها القيادية من نمط تسلطي أم تشاوري/ تشاركي؟ هل ستخضع لرقابة قواعد شعـبية هي التي ستختارها وتبدلها متى شاءت بدل ان تكون القواعد خاضعة لخط إمرة عمودي ينزل عليها من الاعلى من دون ان يكون ثمة اي مجال لأخذه منحى معاكسا، فهو نازل غير صاعد، وعلاقاته خطية وليست تفاعلية او تكاملية، والتواصل تقتله الاوامرية، وليس حواريا او متنوعا ومتشعبا، والأعضاء حلقات تراتبية حتى ادنى مستوياتها، وليست قائمة على المساواة في الحرية التي تمنح مساواة في الدور والمسؤولية؟
ليست أية مسألة من هذه المسائل واضحة بعد، وإن كان من المحتم القول: إننا أمام منعطف تاريخي هائل المعاني والدلالات، تحمله فكرة الحرية كمبدأ جامع لم يسبق له ان برز بهذا القدر من التبلور والوضوح على مر تاريخنا، من شأن تحققه العياني رفعنا إلى سوية تاريخية وروحية لم نعرف لها مثيلا في اي زمان ومكان، ستجعلنا بالقول والفعل جزءا من العالم الحديث، علما بانه لن يغير هذا الطابع مرورنا لبعض الوقت في هذه المرحلة أو تلك من المراحل التي لا تلبي احتياجات الحرية وممارساتها. والآن، يطرح نفسَه علينا سؤالٌ جوهريٌ هو: هل يجوز أن نجهض الاحتمالات الانعطافية والمفصلية غير المسبوقة والفائقة الأثر من خلال التقيد بانماط تنظيمية فات زمانها، تنتمي إلى ماض لن يكون قابلا للاستعادة بعد الآن، وإن بقي شيء منه هنا أو هناك؟ وهل يحق لنا ارتكاب خطأ الخروج من نسق التاريخ ووعده، لأي سبب كان، وبناء نمط من التنظيم لن ينتج لنا شيئا غير الاستبداد، الذي شبعنا منه في ماضينا الشقي؟.
لا يجوز ان نستبق التطور الطبيعي بتجارب تجهضه او تناقضه. ومن غير المقبول او المعقول أن نضع ذواتنا الداعية الى الحرية خارجه وفي مواجهته، ليس فقط لأنها جزء منه، بل لأن خطأنا لن يكون قابلا للإصلاح، ولن يكون له من ضحية غير مشاريعنا السياسية ورهاناتنا الإنسانية، وما نطمح إليه ونعمل له بكل صدق ونزاهة من انعتاق يتحقق بيد شعب نراهن على ان لا يكون له اي رهان غير حريته التي نريد ان تكون من صنع يديه.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى