كتب

«تلات ستات» في ليالي القاهرة

إسلام العزازي

 مع فشل المشروع الناصري في تكوين مجتمع منتج لا يرتكز على العاصمة في مصر، انتشرت الهجرة الداخلية إلى القاهرة بحثاً عن فُرص أكثر للعمل والحياة. مُنذ وقتها والمدينة تتسع بعشوائية، تخلق تنفاساً شرساً في القدرة على العيش مُقارنة بفقر الفرص.

لهذا تحمل المدينة عمقاً به صراع غير مرئي، تتكون داخله حيوات محمّلة بنزعة البقاء. تسير في الظل وتندثر تحت وطأة قسوة مجهّلة من عمق المدينة. عملت «دار المرايا» على إنتاج الفيلم التسجيلي الطويل «قيمة ساعة» الذي يتناول ثلاث حكايات ترويها عاملات جنسِ في القاهرة، أخرجته منال خالد. بمشاركة في البحث وإعداد المادة من الكاتبَين الصحافيَّين محمد العريان وعمر السعيد. أعاد الكاتبان استخدام أبعاد مغايرة من المادة المسجّلة، فأنتجا كتاب «تلات ستات» الذي صدر أخيراً عن «دار المرايا».

كتاب «تلات ستات» – العمل الجنسي في القاهرة

قبل التطرق إلى متن الكتاب، وبنظرة سريعة تجاه العمل الجنسي في القاهرة. طالما تحرك موصوماً على هامش الفنون المعترف بها بحسب الشكل ومستوى الرفاه مثل الرقص، فالمرأة التي تعمل في شيء يكشف جسدها، ترى «عاهرة» محتملة. لذلك فإن الانتقال من الفنون الاستعراضية التي تستقبلها المناسبات الشعبية، إلى العمل في الجنسِ المأجور، نافذة مثّلت في ظاهرها ملجأ معيشياً بدلاً من الجوع أو الموت. لكنها بشكلٍ ما، تفتح عليهن احتمالات مماثلة لما هربن منه.

اختار الكاتبان ثلاث نساء من الطبقات الأكثر فقراً بين عاملات الجنس، مثّلن نماذج مختلفة: الأولى سمرا، الشابة في العشرينيات، نشأت في مجتمع صعيدي منغلق يقدّس تقاليد «الشرف» عند المرأة. بدأت قصتها من زواج محتمل عن حبّ. وبعد تشرّدها في ميدان رمسيس في القاهرة، انتهت أماً عزباء تعمل مع قوّادين وصالات رقص. الثانية عفاف أم لأربعة أبناء، انتقلت من العمل في الجنس التجاري من داخل مصر إلى ليبيا، بينما الثالثة انشراح امرأة ستينية تعمل في صالة جيم، تحكي حكايتها عبر تتابع من الذكريات ينكشف تدريجاً، لينتج محمد العريان مستعيراً صوتها قصةً مليئة بالتحولات والتخبّط الشعوري، والوحدة والتشبّع بالوصم.

«تلات ستات» في ليالي القاهرة – افتتاحية الحكاية الأولى «قتلت نفسي مرتين»

تشير افتتاحية الحكاية الأولى «قتلت نفسي مرتين» إلى مناخ الكتاب عامةً. تبدأ بسائق تاكسي ينام مع سمرا تحت تهديدها، خلال توصيلها إلى ملهى ليلي تعمل فيه. وحين تصل إلى مكان عملها، تتحايل على السائق وتطلب منه الانتظار. ثم تخبر حرّاس المكان بما حدث، فيتبعونه لضرب السائق، وتهدده سمرا بقطع عضوه.

وضعت مقدمة الكتاب أساساً خالياً من الوصم تجاه النسوة الثلاث. فلكل واحدة منهنّ تجربتها المريرة في العمل غير الآمنِ المحفوف بالمخاطر. ولتعزيز هذا الأساس، اعتمدت القصص الثلاث على تداخل بين المخيّلة الأدبية و الدليل الصحافي للحفاظ على خصوصية وأمان النساء. كما ولتطعيم القصص بملمحٍ متخيّل يصبغها بفضاء من التوصيف المشهدي. لذلك تبنّى الكتاب لغة مقاربة للفيلم تقوم على الموازاة بين التوثيق والتطعيم الدرامي.

ربما خلقت هذه البنية تصوّراً أوسع للحكايات، وقدّمها الكاتبان بصيغة أمينة متعمّدة في الحذر على تركِ كل حكاية قائمة، أولاً، على أساس التدقيق والأمانة في النقل، لكن الموازاة بين الواقع والخيال، من حيث توظيف الثاني لمصلحة الأول، جعلت القصص معلّقة بين تناول ثقافي متأمّل، وبين تفصيلات واقعية قاسية وناشفة، يطغى جانب الحقيقة فيها على المتخيّل. لذلك علقت القصص قليلاً بين التخييل والتوثيق، وبدت في بعض التطورات مفتقدة للوحدة في بنيتها.

القصص تحوي لغة داخلية تعجز الكتابة الصحافية عن عكسها

لا ينحصر توظيف الخيال في جانب أخلاقي أو إبداعي، بل هو ضرورة في ظل الكتابة عن عالمٍ مجهّل، لا يلتفت إليه اجتماعياً إلا في سياق الوصم واستحقاق تفريغ الرغبة الجنسية، أو أخلاقياً من جهة المؤسسة لأجل الضبط والمعاقبة. لذلك لم يكن ممكناً أن تقدّم القصص مطابقة كليّاً للواقع، لأنها تحوي لغة داخلية تعجز الكتابة الصحافية عن عكسها لما يمكن أن تسببه من مشكلات أمنية، ونرى انعكاس ذلك في الفيلم، الذي لم يعرض في مصر حتى الآن، مع أنه حصل على تنويه خاص في «مهرجان الدار البيضاء» عام 2022. كذلك، وضع الكتاب جزءاً من «زفارة» لسان هذا العالم بحرص، مع الحذر في إرفاق رموز تكميلية في منتصف السباب.

لتعويض هذا التضييق المتعدد الأوجه، قدّم الكتاب الحكايات بضمير المتكلم. كما ووضع ذلك مساحة القرب تجاه كل راوية  ونقلها من اعتياد الهامش إلى مركزية الحكي. ربما كانت هذه القصدية هي العامل الأساسي في إبعاد الحكايات عن فخاخ أخلاقية. فحينما تنفرد كل رواية بقصّتها، ويكون لها صوت، يصبح لها حيّز من الاعتراف. وخصوصاً أنّ هذا عالم اعتادت نسوته على أن ينوب الآخرون عنهن في الكلام، باعتبارهنّ فاقدات للأنسنة. هنا كوّن الوسيط الفني مبرّراً في أن يبادل الكاتبان الدور بينهما وبين صاحبات الحكايات. لأنهما يكتبان بصوتهن، و يؤثرا صوت التجربة على صوت الكتابة أيضا.

القصص الثلاث تجارب تعكس شخصيات لديها تجربة في أحراش المدينة

بما يحمله الكتاب من عثراتٍ في الوصول إلى صوتٍ شخصي لصاحبات التجارب، لا يحمل جانب التصنيف في الكتاب أي أهمية. وهو أمر تجاهله الكاتبان عمداً من أجل توفير مساحة من التداخل تؤثر خصوصية كل حكاية على إطارها الخارجي المسبق. آليات الكتابة هذه قاربت بيننا وبين عالمٍ مجهّل وموصوم، حوّلته من أحادية النظر إلى حكايات تحتاج وتستحق. قبل أي انطباع مسبق، تناولاً ينأى عن التجميل وصبغ التعاطف المجاني على عالم لا يقبل الشفقة. القصص الثلاث تجارب لا تدين أحداً، ولا تحمل حتى نبرة مظلومية أيضا. بقدر ما تعكس شخصيات لديها تجربة في أحراش المدينة. وفي فمها مرارة تتطلب الحكي لتحظى بما فقدته طوال حياتها من نظرة إنسانية.

صحيفة الأخبار اللبنانية

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى