افتتاحية الموقع

تلاقي الثقافات في بلاد الشام بين الشمال التركي والجنوب العربي الخليجي

ماهر عصام المملوك

شهدت بلاد الشام على مر التاريخ تفاعلات ثقافية واجتماعية بين مختلف الحضارات التي مرت بها أو هيمنت عليها.

ويأتي التفاعل التركي في  شمال بلاد الشام ، ممثلاً بالتأثير العثماني المتجذر، وبين الجنوب العربي الخليجي لبلاد الشام بمزيجه المميز من الهوية الإسلامية والتقاليد البدوية، كأحد أبرز أشكال هذا التفاعل المعقد.

بلاد الشام شكلت منطقة محورية للطموحات السياسية والثقافية لكلا الطرفين، مما أدى إلى خلق تلاقي ثقافي يظهر في الجوانب الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية.

الهوية الثقافية للشمال التركي

تتميز الهوية الثقافية للشمال التركي بجذورها العثمانية العميقة التي تركت بصمتها ليس فقط في تركيا الحالية بل أيضاً في بلاد الشام التي خضعت للحكم العثماني لمدة تزيد على أربعة قرون. تمتد هذه البصمة في النظم الإدارية، الأنماط العمرانية، وأشكال التعبير الفني كالموسيقى والمأكولات.

شهدت هذه الهوية إعادة تشكيل خلال حقبة الجمهورية التركية التي قادها مصطفى كمال أتاتورك، حيث تم الدفع نحو تبني الهوية القومية والتحديث والتغريب، وهو ما أضاف أبعادًا جديدة للتباين الثقافي في علاقتها بالبلدان العربية.

أما الجنوب العربي الخليجي، فهو يرتكز على تراث بدوي قوي متداخل مع الهوية الإسلامية. هذه المجتمعات، رغم انتقالها التدريجي نحو مظاهر الحداثة، ما زالت تحتفظ بجوانب من القيم العشائرية والتقاليد المحافظة. وتظهر هذه السمات بوضوح في التقاليد الاجتماعية، اللغة، والمظاهر المعمارية.

لقد ازدادت أهمية الخليج العربي، سياسيًا واقتصاديًا، بفضل الطفرة النفطية، مما دفعه ليصبح لاعبًا ثقافيًا قويًا يؤثر في المنطقة العربية عامة وبلاد الشام خصوصًا.

بلاد الشام كمسرح للتفاعل الثقافي

وتشكل بلاد الشام، والتي تضم سوريا، لبنان، فلسطين، والأردن، ساحة للتلاقي أو التنافر ومسرح للتفاعل  بين هذه الثقافات. كما تتسم المنطقة بتنوعها الثقافي والديني، مما يجعلها بيئة ديناميكية للتفاعل. تركيا، بحكم القرب الجغرافي والإرث التاريخي، ترى نفسها وريثًا طبيعيًا للنفوذ في الشام، فيما تسعى دول الخليج العربي إلى ترسيخ حضورها من خلال الاستثمارات والروابط السياسية والدينية التاريخية .

نعود للجذور التاريخية للنفوذ  الثقافي خلال الحكم العثماني، فلقد كانت بلاد الشام جزءًا من النظام الثقافي والإداري العثماني، حيث اندمجت مكونات من الثقافة التركية والإسلامية في النسيج الاجتماعي المحلي. ومع سقوط الدولة العثمانية، ظهر نفور ثقافي من الموروث العثماني بفعل الشعور القومي العربي الذي نشأ في ظل الانتداب الأوروبي.

وفي المقابل، الدول الخليجية لم تكن جزءًا كبيرًا من هذا النظام العثماني بل طورت هوياتها بشكل مستقل، مما جعل العلاقة الثقافية مع الشمال التركي محدودة نسبيًا.

اما بالنسبة لأبعاد المواجهة والمقارنة في العصر الحديث:

  1. الأبعاد الاجتماعية

يتجلى هذا الشكل  الثقافي في الحضور الاجتماعي والثقافي لكل من الطرفين في بلاد الشام. فتركيا تعمل على إعادة تعزيز روابطها الثقافية عبر وسائل الإعلام، تعليم اللغة التركية، وتوسيع النشاط الثقافي. ومن جهة أخرى، دول الخليج تستخدم قنواتها الإعلامية والدينية لنشر قيمها الثقافية والتأثير في المجتمع المحلي، بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية.

  1. الأبعاد الاقتصادية

دول الخليج العربي تسعى لتثبيت نفوذها من خلال مشاريع التنمية والاستثمارات في لبنان وسوريا وحتى في فلسطين، وهو ما يخلق نوعًا من التنافس مع تركيا التي تعزز نفوذها الاقتصادي من خلال المساعدات الإنسانية ومشاريع البنية التحتية.

  1. الأبعاد السياسية والدينية

فتباين الهدف التركي الخليجي في بلاد الشام يظهر كذلك من خلال الجوانب السياسية والدينية. فتركيا تستخدم أيديولوجيا “العثمانية الجديدة” لتعزيز هويتها التاريخية وتأثيرها الإقليمي. في المقابل، تعتمد دول الخليج على نفوذها الديني لاسيما من خلال المؤسسات الداعمة للفكر  المحافظ في اصل الدين .

الأدوات المستخدمة في التباين هو :

  • الإعلام: تُستخدم منصات الإعلام التركية والخليجية للترويج للهويات الثقافية والقيم الاجتماعية الخاصة بكل طرف.
  • التعليم والثقافة: تسعى تركيا لإقامة مدارس ومراكز ثقافية، فيما تقوم دول الخليج ببناء المؤسسات الدينية والمراكز الخيرية.
  • المساعدات الإنسانية والتنموية: كلا الطرفين يوظف المساعدات كوسيلة للتأثير الثقافي وكسب الولاءات السياسية.

آثار هذا التباين على بلاد الشام

أدى هذا التباين إلى خلق حالة من الانقسام الثقافي والسياسي داخل مجتمعات بلاد الشام. فبينما يتوجه بعض السكان للتقارب مع الثقافة التركية بدافع الانتماء للإرث الإسلامي العثماني، يفضل آخرون تبني النمط الخليجي خاصة لما يحمله من رمزية الحداثة والدعم الاقتصادي. كما أدى هذا الإشكال  أحيانًا إلى تعميق الانقسامات الطائفية والعرقية في المنطقة.

هل يمكن تحقيق التكامل الثقافي؟

بالرغم من وجود عناصر تنافس واضحة، إلا أن ثمة فرصًا لتكامل ثقافي بين الشمال التركي والجنوب العربي الخليجي في بلاد الشام، إذا ما تم توظيف التفاعل الثقافي بشكل إيجابي. فيمكن تعزيز ذلك من خلال الحوار الحضاري وتوسيع مجالات التعاون الثقافي والاقتصادي بعيدًا عن الأدوات التنافسية الصارخة.

في ختام هذا الاستعراض ، يظل التباين الثقافي بين الشمال التركي والجنوب العربي الخليجي في بلاد الشام موضوعًا معقدًا تتداخل فيه الأبعاد التاريخية والاجتماعية والسياسية. وما بين رغبة تركيا في استعادة إرثها وتأثيرها في المنطقة، وسعي دول الخليج لتعزيز حضورها الإقليمي، ستبقى بلاد الشام نقطة التقاء وصراع ثقافي دائم.

ويبقى الأمل في تجاوز هذا التباين عبر تعزيز الحوار والتكامل الذي يعود بالنفع على شعوب المنطقة كافة.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى