تلك القمة!

لن يجد المؤرخون صعوبة في تقييم أعمال ونتائج مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في منتجع شرم الشيخ المصري. سبقته أحلام وآمال استغرق فيها المتفائلون العرب وأنصار التكامل العربي كعادتهم قبل انعقاد كل قمة عربية، وأعقبته خيبات أمل هؤلاء وآخرين. أما الآخرون، فهم ملايين العرب الذين أحبطتهم ضراوة فصائل وميليشيات وجيوش وشرطة الثورات المضادة لثورة «الربيع العربي»، هؤلاء الذين بحثوا في عناوين وثنايا قرارات القمة وإعلانها النهائي عن قضاياهم وانشغالاتهم فلم يجدوها.

سمحت ظروف عملي خلال مرحلة مبكرة من حياتي بأن أكون قريبا جدا من مؤتمرات القمة العربية. أعرف الكثير عن تأثير الأجواء التي تنعقد فيها هذه المؤتمرات في أعمالها، وأعرف الكثير أيضا عن الإجراءات والضغوط التي تسبق الانعقاد. أعرف مثلا، وكثيرا أيضا، عن ضآلة الاهتمام الذي يوليه معظم القادة العرب للمسائل المعروضة عليهم في جدول الأعمال. خرجت من هذه التجربة باقتناعات أثبتت نتائج القمم اللاحقة صحة أكثرها، وما زلت، برغم مضي السنين وتدهور أوضاع الأمة وتكالب ذئاب البشر على نهب ثرواتها المهدورة واغتيال قيمها واحلامها، أسعى للاقتراب من كل انعقاد للقمة، عساني أجد في اتصالات وإجراءات التحضير لها، أو في نوعية المشاركة ومستواها أو في ما يتسرب من داخل القاعة والكواليس والغرف المغلقة، ما يضيف لاقتناعاتي اقتناعات جديدة أو يزيدني ثقة فيها أو يدفعني لتحسينها.

وبالفعل، اقتربت من هذه القمة الأخيرة بضغط الحوافز نفسها. وكالعادة، تمنيت أن تكون مختلفة عن سابقاتها. وكالعادة أيضا، قاومت إغراء الحملات الإعلامية العربية عامة، والمصرية خاصة، التي تسبق انعقاد كل قمة. ففي كثير من الحالات كانت الحملات تهدف إلى صنع رأي عام لمصلحة أو ضد دولة أو قضية بعينها، وفى حالة هذه القمة الأخيرة، كان هدف إحدى الحملات تكوين رأي عام كاره لأداء الامانة العامة للجامعة، ورأي عام آخر كاره لدولة معينة من دول الجوار، ولم تكن إسرائيل الدولة التي وقع عليها اختيار تركيز الغضب العربي، انما وقع اختيار عدد من الدول على إيران. اقتربت ولاحظت وسألت وتابعت وخرجت بانطباعات، كل انطباع منها يخضع الآن للتدقيق والتحقيق، قبل أن ينضم إلى قائمة اقتناعات تشكلت عبر سنوات تجربة طويلة، أو قبل أن يسقط كلية من رصيد خبراتي وتجاربي.

كان عنوان أول انطباعاتي أن القمة العربية بالمعنى المأمول لدى الغالبية العظمى من شعوب العرب لم تنعقد، إنما انعقدت قمة «شبه «خليجية موسعة، بمعنى أن المؤتمر اتخذ صفة القمة الاستثنائية اي غير العادية باعتبار اهتمامها الشديد بموضوع واحد يهم أساسا دول الخليج وليس جميعها على كل حال بدليل عزوف دولة عُمان، وباعتبار اهمالها الشديد الموضوعات الأخرى كافة، أو في أحسن الأحوال لم تهتم إلا سطحيا بقضايا عربية أخرى. لم تناقش القمة بالاهتمام الواجب الدعوة إلى تشكيل قوة عسكرية عربية لمقاومة الإرهاب، ولم تناقش بالتفصيل المطلوب والمتوقع منها المسائل المتعلقة بتطوير ميثاق جامعة الدول العربية، ولم تكن مستعدة لاتخاذ قرارات في شأن مشاريع تنمية عربية شاملة أو تطوير العمل العربي الاقتصادي المشترك. وبالتأكيد، اختتمت القمة العربية السادسة والعشرون أعمالها وغادر الملوك والرؤساء قبل أن ينتبهوا إلى أن قضية فلسطين بتطوراتها المذهلة دوليا وداخليا لم تحصل على حقها من الدرس والنصح والالتزام. وبهذا الموقف من قضية فلسطين، تكون قمة شرم الشيخ قد فتحت الطريق أمام إعلان نهاية أو صياغة خاتمة رواية: «فلسطين قضية العرب الأولى».

سمعت تعليقا لأحد المحللين الأجانب المهتمين بقضايا الإقليم وعلاقته بالعالم الخارجي، يعرب الرجل في تعليقه عن دهشته من أن اجتماعا على هذا المستوى يعقد في أي مكان في العالم، لا يجدد من خلال النقاش أو القرارات أو الإعلان النهائي أمل شعوب الإقليم في الديموقراطية ولا يؤكد التزام المؤتمرين بالقيم العالمية، وبخاصة قيم حقوق الإنسان، وفي حالتنا لم تحاول القمة الدفاع عن تهم انتشار الفساد وتحكم الاستبداد والتطرف في التعامل مع قضايا الحريات.

ثانيا: بأي حال من الأحوال، لا يمكن القول بأن الأمة العربية كانت ممثلة على الوجه الأمثل أو المناسب في هذا المؤتمر، وبأي حال من الأحوال سيكون من الصعوبة بمكان الزعم بأن البيان الصادر عن القمة السادسة والعشرين يعبر عن حقيقة مشاعر وأهداف شعوب العرب كافة، دول حضرت وشاركت وأيدت باقتناع، ودول أكثر عددا حضرت وشاركت وأيدت بحماسة فاترة أو بعبارات مائعة بما يحمل معنى التأييد بدون اقتناع أو للمسايرة أو بأمل في ثمن. ودول حضر من يمثلها قانونيا ولم يكن حسب الواقع على أرض بلاده يمثلها واقعيا. ومع ذلك، يجب أن نعترف أن قمما عربية كثيرة مرت بأوضاع لا تختلف كثيرا عن وضع القمة السادسة والعشرين. في الوقت نفسه، يجب أن نعترف أيضا بأن ما يميز هذه القمة الأخيرة عن سابقاتها أنها القمة الوحيدة التي يكتشف اعضاؤها قبل وصولهم بساعات قليلة أنها «قمة حرب». بل أيضا بمعنى أنها ستكون أول قمة عربية تخرج بقرارات شن حرب أو الاستعداد لحرب. أغلب الظن أن المؤرخين سوف يكتبون عنها أنها كانت «قمة حرب استثنائية»، إذ كان من أهدافها المعلنة في اللحظات الأخيرة السابقة على الالتئام، اقتراح سعودي بمباركة حرب شنت قبل ساعات معدودة ضد قوى متمردة في اليمن. تصادف أن مصر كانت قد تقدمت قبل أسابيع قليلة باقتراح إعلان العزم على إنشاء قوة عسكرية عربية مشتركة لمكافحة الإرهاب.

لا يحتاج الأمر إلى خبرة طويلة في العمل الدولي ليتوقع أهل التحليل أن هذا النقص في الدعم الفعال والكامل لقرار الحرب في اليمن وقرار تشكيل قوة عسكرية عربية، سوف يؤدي إلى مشكلات شديدة التعقيد حول شرعية التدخل، مشكلات من نوع المشكلات التي واجهتها الحرب ضد العراق والحرب العالمية الأولى ضد الإرهاب، وكانتا في النهاية من أهم أسباب تراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة. إن كثيرا من مشاكلنا العربية نشأت وتعقدت بسبب ميل الحكام العرب إلى «تعريب» طموحاتهم الشخصية أو سياساتهم الإقليمية والدولية، بمعنى الادعاء حقا او مبالغة او توهما أن هذه الطموحات والسياسات تخدم أهداف الأمة بأسرها وتحظى بتأييدها. تعودنا على امتداد عمر النظام العربي على زعيم أو آخر يتحدث باسم كل العرب، وزعيم أو آخر يدخل في حرب باسم كل العرب، وزعيم أو آخر يفاوض باسم كل العرب. كثيرا ما كان التعريب في عديد الحالات باهظ الثمن، وكثيرا ما كانت خيبات الأمل مؤلمة.

ها نحن بكل الأسى والأسف، نرى أنه بينما تعرض قضية فلسطين على القمة السادسة والعشرين كقضية «بعض» العرب، وليس كقضية كل العرب، نرى في الوقت نفسه قضية بشار الأسد تعرض وتناقش «كقضية كل العرب»، وهي بالتأكيد وبواقع الحال والتطورات الإقليمية والدولية ليست سوى قضية «بعض» العرب. بل لعلنا نتوقف أمام هذا المثال الذي يحمل تناقضا مثيرا، إذ تبدو القمة العربية، أي «كل العرب»، داعمة لـ «ثورة الربيع» في سوريا، برغم أن القمة العربية نفسها، تعمل بكل طاقتها لإجهاض «الربيع العربي» في أي مكان أزهر فيه وأينع، ووأده إن أمكن في أي مكان تعثر فيه.

ثالثا: بعد ما سمعناه من خطب وبيانات في تلك القمة وما قرأناه من تعليقات، لا سبيل لإنكار أن العرب منقسمون حول الإرهاب، مفهوما وممارسات ومجالات ومنظمات وأفرادا، بل هم يختلفون أيضا حول أسباب نشأته وأساليب مواجهته. ميوعة المفهوم سمحت في الماضي بالتساهل مع الانتشار الواسع لأفكار متطرفة في تفسير الدين، وتسمح الآن بالتوسع الهائل في أساليب ومجالات مكافحته. لا تخفى حقيقة أن هذه الميوعة كانت، ولا تزال، السبب في خلافات عميقة بين الدول العربية، وستظل السبب الرئيسي وراء الصعوبات التي ستواجه اقتراح تشكيل قوة عسكرية عربية موحدة أو شبه موحدة أو حتى غير موحدة لمكافحة «عدو» غير محدد المعالم وغير واضحة مواصفاته وغير مؤكدة تماما مصادر تمويله وتسليمه. أعتقد أيضا، من واقع قراءة مستمرة للتاريخ السياسي العربي، أنه مهما تقاربت أهداف الأنظمة الحاكمة العربية، ومهما تشابهت أو تقاربت الرؤى، لن يحدث في أي وقت أن تجتمع آراء الدول العربية جمعاء حول تعريف واحد وواضح لمعنى التمرد والثورة ضد نظام حكم في دولة عربية. بمعنى آخر، لن يتوحد العرب على قرار بالتدخل في دولة عربية أو أخرى لاستعادة الاستقرار والأمن والقضاء على ثورة أو تمرد ناشب فيها. سوف يستمر العمل بنظام إقامة تحالف للراغبين فقط، أو بالتدخل أولا على أمل كسب الشرعية الإقليمية له في ما بعد، وكلها أثبتت أنها إجراءات وممارسات لا تتسامح معها الشرعية الدولية ببساطة. وبالتالي يصبح ثمنها باهظا، وبخاصة إذا تسببت في إقامة تحالفات عسكرية مقابلة من الرافضين وغير الراغبين.

انفض المؤتمر وعادت الوفود إلى بلادها في الخارج أو إلى مكاتبها في الداخل تاركة خلفها أسئلة لم تجد إجابتها عند القادة العرب، ومخلفة توقعات بعضها معقد وبعضها مغلف بغموض متعمد أو مصطنع. هناك توقع بأن تكون مسيرة تنفيذ اقتراح القوة العربية المشتركة مسيرة معقدة، وبخاصة إذا امتدت فترة عمل «القوة الدولية» التي تقودها المملكة السعودية. هناك توقع آخر بأن تتصاعد الحملة الإعلامية ضد الجامعة العربية، كمنظمة إقليمية قومية. سيبقى هدف الحملة المتواري، كما يعرف الكثيرون ولا يعترفون، هو التحكم في حجم مصر ووزنها، وفي نهضتها وكبواتها.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى